الطريق- عمار جلو
مع بزوغ نجم الغاز في أماسي النفط الآيلة للأفول، تعود الصراعات الدولية للبروز بحدّة؛ مع تصاعد أهمية الجغرافية السياسية كعنصر مركزي في مجال الطاقة وإمداداتها.
شكّل الاتفاق النووي الإيراني، عام ٢٠١٥، أحد المحفّزات الأمريكية لحكومة طهران للمشاركة في مشروع "نابوكو" الذي ترجو منه واشنطن محاصرة الاتحاد الروسي، وتفويت الفرصة على موسكو لعودتها إلى الساحة الدولية كدولة فاعلة ومؤثرة على السلوك الأوربي باستخدامها سلاحَ الطاقة، فيما سعت طهران للابتعاد عن المشروعين الروسي والأمريكي الخاصين بإمدادات الغاز وصاغت مشروعها الخاص بها، المسمَّى الخط الفارسي/ الإسلامي، المار بالعراق وسوريا ومنها إلى أوربا عبر المتوسط.
وأضافت الاكتشافات الحديثة في شرقي المتوسط مزيداً من احتياط الغاز لدولِه؛ من مصر إلى سوريا مروراً بفلسطين (غزة) وإسرائيل ولبنان، ودخلت دبي على خط الغاز بشرقي المتوسط بشرائها لـ 40 بالمئة من حصة الشركة الإسرائيلية، ممَّا يشير إلى توجه الحكومتين الإماراتية والإسرائيلية للحرث في الحقل الاقتصادي للسلام الموقع بين الجانبين، من خلال مشروع لنقل الغاز إلى أوربا، ويُستشف هذا المنحى من عبارة وردت في حديث السيد أحمد محارم، عضو الحزب الديمقراطي الأمريكي، في برنامج "العالم هذا المساء" على شاشة البي بي سي، في تعليقه على الحدث الآني الخاص بتزويد لبنان بالطاقة من قبل مصر، عن طريق إمداد الأردن بالغاز لتوليد الطاقة الكهربائية ونقلها للبنان عبر الأراضي السورية، ممَّا يلفت الانتباه لما ورد على لسان السيد محارم بنقل الغاز لأوربا عبر المتوسط من لبنان، ويطرح التساؤل حول اقتصار الموضوع عند حدود لبنان أم أنَّ خطاً لنقل الغاز إلى أوربا عبر المتوسط يتبلور في غرف القرار السياسي؟.. لا سيَّما بعد الانتكاسات التي تعرض لها خط "نابوكو" سواءً بعد انسحاب تركمانستان وأوزباكستان من التزامهما بالمشروع وبيع حصتهما الغازية كاملة أو بأغلبها لموسكو، أو لجهة المحاججة القانونية التي قدمتها موسكو حول بحر قزوين وتوصيفه القانوني؛ ممَّا يقطع الطريق على عبور "نابوكو" في مياهه.
ما يزيد الشكوك عن مشروع عبر المتوسط؛ هو تجارية هذا الخط وإمكانية توسيعه عبر خطوط النفط الموجود أو خطوط جديدة رافدة له من دول الخليج والعراق، وما يمثله الاحتياطي القطري من ثقل في هذا المجال مع الإمكانية لربط الخطوط الخليجية بخط يصلها بأواسط آسيا عبر الخليج العربي وبحر العرب.
الأنانية هي السمة الأساسية للدولة، بمعنى أنَّ الدولة لا تضحي بنفسها لأجل الغير، وهو ما ظهر من خلال موافقة السلطة في دمشق على مشروع إمداد لبنان بالطاقة عبر أراضيها، رغم تصادم هذا المشروع مع المساعي الإيرانية الهادفة لتعزيز سطوتها على بيروت من أبواب الدعم الطاقوي الذي عبَّرت عنه بتوجيه باخرتين من النفط الإيراني إلى لبنان، وتصريحات المسؤولين الإيرانيين عن اشتراط تقديم طلب من الحكومة اللبنانية للحصول على الدعم، وكلا الجانبين؛ السوري والإيراني يرنوان لتحقيق مكاسب سياسية بمعزل عن المردود المالي الذي تدره عملية إمداد بيروت بالطاقة، إلا أنَّ سلطة دمشق دخلت في المشروع الرامي لقطع الطريق على جهود حليفتها وصاحبة الفضل في استمرار سلطتها حتى الآن، مع ما يمس الحليف الروسي الذي قلب موازين القوة على الأرض لصالح الأسد، ممَّا يثير التساؤل حول قدرة الحكومة في دمشق على الخروج من النفوذ الروسي والإيراني والدخول باتفاق قد يتوسع إلى خط إمداد للغاز منافس للخطين الروسي والإيراني، بعد عقد من ترجيحها للكفة الإيرانية على الكفة القطرية، وتوقيعها اتفاقاً مع طهران تسمح بهِ بمد أنابيب نقل الغاز عبر الأراضي السورية عام ٢٠١١ ، فيما رفضت توقيعَ اتفاقٍ مماثل مع الدوحة عام ٢٠٠٩ .
تسعى موسكو لإفشال جميع المشاريع الخاصة بالغاز وإمداداته ومتعلقاته (العقدة الأوكرانية) ضمن خطة تحصين نفسها وإبقاء مشروعها العملاق، السيل الشمالي والجنوبي، أكثر فعالية ووحدانية؛ لما يُدر عليها من مردود اقتصادي وسياسي، ويساهم بعودتها للساحة الدولية كطرف فاعل ومؤثر ضمن الاستراتيجية الروسية الهادفة لإحلال نظام دولي متعدد الأقطاب من البوابة الاقتصادية للوصول إلى أهداف سياسية، كالمشروع الأوراسي ومجموعة البريكس وما تنهجاه من سياسة مالية تجعل الدولار أحد العملات المتعاقد بموجبها بين هذه الدول، دون اعتباره العملة الوحيدة للتعامل، وهو ما يوفره لها تصدير الغاز لأوربا وما يتبعه من تبادل تجاري يتم باليورو.
وهنا لابدَّ من التساؤل عن موقف موسكو من انخراط دمشق في مشروع محتمل لنقل الغاز إلى أوربا عبر المتوسط !
لم يتوصل منظرو العلاقات الدولية إلى تفسير موحَّد لاندلاع الحروب، إلا أنَّ الميدان العملي للعلاقات الدولية تُظهر زيادة الحروب والأزمات مع ظهور مصادر الطاقة ومشاريع إمدادها، ولعلَّ ذلك ما يحدث خلال السنوات الماضية واللاحقة أيضاً، من لبنان إلى أفغانستان التي لم يبقَ من أحجار الدومينو فيها سوى طهران، وهو خط أشار له أرييل شارون في مذكراته ضمن خطة للوصول إلى بحر قزوين، وكانت مثار استهزاء الصحفي والوزير المصري محمد حسنين هيكل في نهاية أحد كتبه.