الطريق- عمار جلو
أصدر ما يسمى مجلس الشعب في الدولة السورية المخطوفة بياناً بمناسبة الذكرى الثانية والثمانين لإعلان تركيا ضم لواء إسكندرون إليها، وجاء فيه "لواء إسكندرون جزء لا يتجزأ من التراب الوطني، وأنَّ السوريين سيبذلون الغالي والنفيس حتى يعود الحق السليب إلى أصحابه". مضيفاً أنَّ السوريين مصرون على استعادة كامل الأراضي المغتصبة وتحقيق النصر المؤزر بهمة رجال الجيش العربي السوري، فيما رفضت وزارة الخارجية التركية البيان ووصفته على لسان المتحدث باسمها، تانجو بيجليتش بـ"الوقح وغير القانوني" مضيفاً أنَّ "مثل هذه التصريحات هي مظهر آخر من مظاهر الوهم الذي يعيشه النظام السوري، المستمر في اضطهاد شعبه منذ سنوات".
ليس الأمر بجديد على المؤسسات السورية الدائرة في فلك سفاح دمشق، إذ جاء ببيان لوزارة التربية السورية في العام 2017 أنه "بناءً على مقتضيات المصلحة العامة وبعد الاطلاع على الملاحظات الواردة في كتاب مادة علم الأحياء، تستبدل الخريطة" في إشارة لإعادة خريطة لواء إسكندرون بعد إزالتها سابقاً.
يقع لواء إسكندرون على خليجي إسكندرون والسويدية في الزاوية الشمالية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، مشكلاً بذلك الشمال الغربي للمملكة السورية المولودة بحدودها التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو، حيث حضر ممثلون عن اللواء إلى المؤتمر السوري العام المنعقد عام 1919, وهو ما أكدته المادة 27 معاهدة سيفر التي نصت على عروبة جنوب الأناضول، وكذلك بالمادة 16 من اتفاقية لوزان التي ربطتها بالدولة السورية.
شكّل اللواء دولة مستقلة تحت إمرة حاكم عسكري فرنسي بموجب تقسيمات غورو، وانضمَّ في العام 1926 للدولة السورية بعد إقرار المجلس التمثيلي لدولة إسكندرونة عقب مباحثات مع وفد وزاري أوفده الرئيس السوري، أحمد نامي، بعد زيارة أجراها للواء الذي يقطنه العرب والترك والكرد والأرمن.
جاءت أول مطالبة تركية باللواء في مذكرة رُفِعت بمعية السفير الفرنسي في أنقرة في تشرين الأول 1936 رفضت فيها ضم اللواء للدولة السورية، مطالبةً بتحويله إلى دولة مستقلة تمهيداً لضمِّه لاحقاً. قررت فرنسا رفع الأمر لعصبة الأمم، مقترحة أن يكون اللواء منزوعَ السلاح وخاضعاً للجمهورية السورية من الناحية المالية والإدارية، بالإضافة لإجراء استفتاء لتقرير مصير اللواء بإشراف لجنة فرنسية تركية مشتركة. أصدرت العصبة قرارها القاضي بفصل اللواء عن سوريا في 29 مايو/أيار عام1937، كما قامت بوضع قانون خاص بانتخابات مزمع إجراءها، وأوفدت لجنة دولية للإشراف عليها. غادرت اللجنة أنطاكيا قبل إجراء الانتخابات التي بدأ التسجيل لها في مايو/أيار عام 1938، وقامت اللجنة الفرنسية التركية المشتركة بالإشراف على الانتخابات التي قاطعها العرب ففازت بها القوائم التركية. في أيلول/سبتمبر 1938 تمَّ الإعلان عن قيام دولة هاتاي التركية في اللواء، وفي حزيران عام 1939 أشرف الفرنسيون على استفتاء حول انضمام هاتاي إلى الجمهورية التركية. وفي الأول من أيلول أعلن رسمياً انضمام دولة هاتاي إلى الجمهورية التركية.
في طريق عودته من باريس من العام 1937، اجتمع رئيس الوزراء السوري آنذاك جميل مردم بيك، بالرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك، في العاصمة التركية أنقرة، وهو ما جعله عرضة لاتهامات بيع اللواء دون سند أو دليل ملموس، إلا أنَّ الواقع السياسي السوري آنذاك يعطي ما يوحي بتهاون الوطنيين السوريين في الحفاظ على الجسد الوطني الوليد، حيث لم تحظَ قضية إسكندرون وتطوراتها باهتمام القوى السياسية السورية، باستثناء عصبة العمل القومي، حسب ما يورد محمد حرب فرزات في كتابه عن الحياة السياسية في سوريا، وفيه يذكر المضايقات التي تعرضت لها العصبة من القوى السياسية السورية، بالإضافة للملاحقات من قبل السلطات الفرنسية ومن خلفها التركية، إذ رشحت الكتلة الوطنية لمنافسة العصبة في الانتخابات النيابية حينها بمرشحين اعتادوا مؤازرة الانتداب، وظهر لاحقاً ضعف الولاء الوطني لديهم؛ إذ قاموا بالانسحاب من مجلس النواب السوري والالتحاق بمجلس نواب هاتاي ومنه إلى مجلس النواب التركي، فيما لم تستطع عصبة العمل القومي تحمل منافسة الكتلة بالإضافة لملاحقات الفرنسيين، فقررت الانسحاب من الانتخابات مشيرة في بيانها أنه تمَّ؛ "لكي لا تعطي هؤلاء النواب سلاحاً شرعياً يحاربون فيه تحت قبة البرلمان، الوحدةَ السورية واستقلال الوطن السوري". كما تشير كثيرٌ من مداخلات النائب منير العجلاني عن اتهامات صريحة ومبطنة لحكومة الكتلة الوطنية بالصمت عن ضم اللواء، في مساعيها لتوقيع معاهدة الاستقلال مع فرنسا.
على الطرف المقابل، هُيِّئ للحركة الوطنية التركية رجل استطاع في ظل الإمكانات المتاحة تغيير الخريطة الجيوسياسية لتركيا الحديثة، التي نزلت على أراضيها أربعة جيوش أجنبية مع اتفاقية مذلة(سيفر)، نتيجة خروج السلطنة العثمانية مهزومة بالحرب الكونية ومفككة الأوصال، ففي رده على طلب السلطان بعودته إلى العاصمة إسطنبول، أجاب الجنرال مصطفى كمال أتاتورك، السلطانَ، بالقول:" سأبقى في الأناضول حتى يستعيد الوطن كامل استقلاله" وهو ما ناضل له أتاتورك وحققه بالسلاح تارة وبالدبلوماسية تارةً أخرى، من خلال قراءة دقيقة للمتغيرات الدولية وبوادر حرب عالمية جديدة أغدقت العطاءات البريطانية والفرنسية لخطب ودها مسبقاً، وبرز ذلك بمواقف الدولتين تجاه الغزو اليوناني والإيطالي، أو في ما يخص الروملي والبوسفور والدردنيل، وعودة السيادة التركية عليهم بموجب اتفاقية لوزان التي لم تقل أهمية عن معركتي إينونو الأولى والثانية، وفي تقرير مصير إسكندرون.
على دروب المتاجرة والمزاودة بقضية فلسطين، تنسى الأنظمة الممانعة قضاياها الوطنية، التي تخرجها بين فينة وأخرى لأهداف تكتيكية لا علاقة لها بالثوابت الوطنية، فلا يعقل ممَّن ابتدع فكرة سوريا المفيدة وما تحويه من تمزيق لما بقي من سوريا، أن يكون جاداً بالمطالبة بلواء إسكندرون.