الطريق- عمار جلو
يقول أينشتاين: " عند تكرار التجارب على نفس العناصر فإنَّ من الجنون توقع نتائج مختلفة" وهي مقولة يمكن سحبها من قوارير الفيزياء إلى ساحات السياسة.
دخلت المعارضة السورية ثورة السوريين بأمراضها الموروثة من سنوات الإرهاب الأسدي التي حولتها إلى أشنيات لا جذور لها (والتعبير للوصف لا للإهانة) تتقاذفها ملاحقات السلطة ونفور المجتمع، وهو ما آلت له المعارضة الداخلية. أمَّا الخارجية فقد كانت مُبعدة جغرافياً، ومبتعدة وجدانياً عن قضية السوريين الذين حملوا لها الكثير من مشاعر المظلومية، فيما لم تبادلهم المشاعر في تشارك الهم الوطني، بل بقيت تدور في ثنايا أيدولوجيتها وحساباتها الخاصة، وأضافت لها حدةُ الصراع ومرارةُ الغربة عقدةَ الثأر. ومن بين تلك القروح التي أصابت المعارضة، تفجُّر قرح الاختلاف الأيدولوجي بين علمانيي المعارضة وإسلامييها وخلافات الرؤى داخل التيار الواحد؛ وهو ما ظهر جلياً بانقسام رؤية التيار العلماني (المعارضة الداخلية) حول آلية هدم النظام الاستبدادي بين تفكيكه وإسقاطه. لم تغطِ خلافات المعارضة إلا يافطة الثورة وشعارها إسقاط النظام؛ ممَّا أبقى هذه الخلافات بعيدةً عن معرفة الشارع الثوري، لكنَّ عدواها أصابته نتيجة مدِّ الأيدي بين المعارضة والشارع لقيادة دفة الثورة، غير أنَّ تشابك الأيادي تمَّ على معايير الولاء لا المبدأ والقفز جميعاً على المشاكل وتبريرها بحجج أو بسفه بدلاً من الوقوف عليها ومعالجتها بدايةً؛ كالهجوم الذي تعرضت له مستودعات الأركان، وقبلها اختطاف جنود تابعين للأمم المتحدة في الجنوب السوري والتبرير الغوغائي للحدثين، إلا أنَّ الغباء الأكبر تمثل في التغاضي عن مرحلة تفريخ داعش وأشباهها في رحم الثورة بدعوى عدو العدو صديق، دون تنبيه الشارع الجاهل بعذر لخطورة أيديولوجيا هذه الحركات ومآلها على المجتمع والدولة خلاصة لتجاربها السابقة، ممَّا جعل الثورة والمعارضة في موقع الاتهامات التي وجهها النظام للحراك الشعبي بدايةً من الطائفية للعسكرة للارتهان للخارج والإرهاب الذي جعل النظام يتنفس الصعداء مع إعلان الخلافة "المزعومة". ومع غياب منبر إعلاميٍّ موحد وخطابٍ سياسي واعٍ، كانت الخطابات الشعبوية وبيع أوهام القوة والنصر أكثرَ السلع مبيعاً في سوق الثورة؛ ممَّا أسهم بتضييع البوصلة الشعبية وتيهه.
لا تشير الدلائل إلى تغير جوهري في سلوك المعارضة ومنهجها، لا سيَّما بعد الابتعاد عن الشرعية الثورية ووضع مكانها شرعية الولاء لدول وإعلاء مصالح هذه الدول على حساب المصلحة الوطنية، وقد يكون ذلك مرده لحالة الانكسار والضعف اللَّذَيْن تعاني منهما الثورة؛ جهلاً منهم بالأدوات والوسائل السياسية التي يمكن اللجوء إليها في حالة القوة والضعف، وإذا كانت الوسائل معروفة في حالة القوة فهي مجهولة للبعض في حالة الضعف، فتعدد المصالح الدولية وتصادمها على الجغرافية السورية ـ مع ما تحمله من عوامل إضعاف ــ فيه بذور القوة لمن أراد حرثها وسقايتها من خلال اللعب على الخيوط المتنافرة والمصالح المتصارعة، وعدم وضع المعارضة (موحدة ومتناسقة) لبيضها في سلة واحدة، وهو ما يعيه النظام ويعرف قواعد لعبته؛ لذا أرسل رئيس النظام مبعوثاً إلى واشنطن لبحث تفاهمات معها ترفع عنه الوصاية الروسية، فالسياسة فن العمل في حدود الممكن، لكن هذا الممكن لا يعني الركون للواقع، بل العمل على تغييره بالوسائل المتاحة ومن خلال إمعان النظر في الحوادث لانتزاع وسائل قوة منها، فبعد انهيار الجيش النمساوي أمام نابليون عام ١٨٠٩ لم يُعدم كاهن السياسة النمساوية "مترنيخ" فكرة بناء جيش يضمن عودة النمسا إلى مركزها؛ فاقترح على فرنسا إنشاء جيش قوامه ٣٠ ألف مقاتل ووضعهم تحت إمرة نابليون، تتولى فرنسا تجهيزهم وتسليحهم، ثمَّ تضاعف عدد الجيش لاحقاً خلال مفاوضات السماح للجيش الفرنسي المرور عبر النمسا لاجتياح روسيا، وهو الاجتياح الذي دمر طموحات بونابرت، وبعد انهيار الجيش الفرنسي نتيجة تخلي فرقه عن بونابرت وفي مقدمتهم الجيش النمساوي الذي فتح الباب لغيره من المنضوين تحت الولاء البونابرتي، وهو ما كان يتوقعه "مترنيخ" حيث توقع أن يعلو الولاء للنمسا على الولاء لنابليون حين تحقُّ الحقيقة.
عشرية انقضت، وانقلبت فيها كثير من المواقع والأوضاع، فلا الثورة الآن بعنفوانها وطهريتها الأولين، ولا المواقف الدولية تجاهها باقية على تأييدها الأول، كذلك موازين القوة بين الثورة والنظام مالت لصالح النظام، فيما شيءٌ واحد بقي ثابتاً ولم يتغير؛ وهو عقلية النظام والمعارضة، العقلية المستخفة بالسوريين ودمائهم، فهل أكون طوباوياً إذا تمنيت خروج نخبة تزيح أطراف الصراع السوري بالتحام مع الوطن السوري وهموم مواطنيه ؟