الطريق- عمار جلو
تنتمي هيئة تحرير الشام إلى ما يعرف بالسلفية الجهادية كما هو معلوم، إلا أنها أطلت على الساحة السورية بثوب جديد ألبستها إياه تجربة الماضي المرير في العراق وتراجع التيار الجهادي تحت ضربات الصحوات (السُّنيَّة التي افترض التيار الجهادي تمثيلها) نتيجة تراجع الحاضنة الشعبية عنه بسبب ممارساته، لذا لبست جبهة النصرة لأهل الشام ثياب العمل المدني والإنساني إلى جانب بزة العسكرة؛ في رغبةٍ منها لتكوين حاضنة اجتماعية دائمة لنشاطاتها التي توجتها في الجانب المدني بتأليف حكومة الإنقاذ. وضمن غريزة البقاء التي تحكم الشخصيات الطبيعية والاعتبارية، مارست الهيئة مجموعة من التقلبات والتحولات التي وضعت المتابع في حيرة من أمره، ولتبديد هذه الحيرة يجب الرجوع إلى تحولين هما الأهم في مسيرة الهيئة على أرض الشام.
حدثان هامان حكما هيئة تحرير الشام على أرض الشام، كان أولهما إعلان زعيم دولة العراق والشام الإسلامية "داعش" عن "خلافته" المزعومة واستتباع جبهة النصرة لها، ممَّا فرض على زعيم الجبهة، أبو محمد الجولاني، إعلان بيعته للقاعدة المركزية وزعيمها الدكتور أيمن الظواهري كحائط يستند إليه في رفض مزاعم البغدادي ورفض التبعية لخلافته؛ ممَّا أحدث فتحتين للانشقاق عن النصرة، خرج من إحداهما التيار المتشدد في النصرة للالتحاق بالحضن الداعشي، وخرجت من الثانية فصائل وأفراد رفضوا الانضواء تحت السقف القاعدي ووكيله السوري؛ ممَّا جعل النصرة على حافة الاندثار في ذلك الحين. أمَّا الحدث الثاني فقد جاء لنسف الأول والخلاص من تبعياته، إذ أعلن أبو محمد الجولاني أواخر عام ٢٠١٩ صراحةً الانتقال إلى مرحلة جديدة تتمثل في خوض حرب تحرير ضدَّ الاحتلالين الروسي والإيراني معتبراً الهيئة التي يتزعمها حركة تحرر وطني، وهو التحول الجذري الأهم في رؤى وتوجه هيئة تحرير الشام لدى المطلعين على فكر وأدبيات تيار السلفية الجهادية، إذ إنَّ مصطلح التحرير غير موجود في أدبيات التيار ولا يقاس على مصطلح الجهاد أبداً، فالجهاد يهدف لتحكيم الشريعة وإعلاء كلمة الله، فيما يرتبط التحرير بـ"الأرض والدولة" وهذان المحددان منبوذان وغير معترف بهما في السلفية الجهادية؛ حيث لا يُشترط للدولة في نظر السلفية الجهادية أرض أو شعب، والشرط الوحيد لها هو دستور الحكم الذي ينظر له بوصفه المرجعية الشرعية والحاكمية الإلهية، لذا يقف التحرير مرادفاً للمقاومة فيما الحاكمية مرادفة للجهاد، ولا مجال لتحريف مفهوم الجهاد إلى مفهوم المقاومة ولا لربطه بحدود الأرض والجغرافية، فالمسلم العربي أخو المسلم الأعجمي ويجب على كلٍّ منهما النصرة لأخيه، فالمدخلات الشرعية لمفهوم المقاومة تختلف عن المدخلات الشرعية لمفهوم الجهاد وكذلك الحال بالنسبة للمخرجات، حيث يتبنى الجهاد الصبغة العالمية فيما تركن المقاومة للمحلية والإقليمية، وهنا يمكن تفسير توجه هيئة تحرير الشام لإلغاء وتحجيم الفصائل ذات الطابع الأجنبي كالحزب الإسلامي التركستاني، وجند الشام الذي يتزعمه مسلم الشيشاني.
قفزت هيئة تحرير الشام من سفينة الجهاد العالمي إلى زوارق الإسلام الوطني المتماهي مع النظام العالمي الذي تسعى السلفية الجهادية إلى هدمه وتحطيمه لبناء نظام إسلامي إنساني حسب أدبياتها، فيما يجنح الإسلام الوطني للعمل ضمن ضوابط النظام العالمي خاصةً لناحية الحدود المرسومة للدولة الوطنية/ القومية، وضمن الأيديولوجيا التي يتبناها في سعي الحركات المنضوية تحت جناح الإسلام الوطني لدخول الحقل السياسي وإثبات نفسها من خلاله سواءً عن طريق الانتخاب في الدول المستقرة أو عن طريق الأدوار الوظيفية في الدول غير المستقرة، كحال هيئة تحرير الشام على الجغرافية السورية، حيث تُقدم نفسها على أنها شريك فعال في محاربة الإرهاب معتمدة على إرثها في محاربة داعش سابقاً واعتقال خلاياه المتناثرة في إدلب، أو من صدامها وتضييقها على حراس الدين، الفصيل القاعدي، ومحاصرة أي عملية عابرة للحدود قد يسعى لها الفصيل الأخير أو سواه من الفصائل الباقية على أمميتها. ومن هنا يمكن تفسير الإجراءات الأخيرة التي تقوم بها الهيئة في مناطق نفوذها، وكذلك تنظيفها لبيتها الداخلي بتحييد قيادات دينية وعسكرية عن مفاصل الهيئة، واستبعادهم عنها أو زجهم في سجونها، أو التخلص منهم باستهدافهم من قبل قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي نفّذ عدداً من عمليات الاغتيال لقادة تيار الجهاد العالمي في صفوف الهيئة بالتعاون المخفي معها.
تعمل الهيئة على تنفيذ التوافقات الروسية التركية في أستانا على امتداد جلساتها، في خطوة لتقديم نفسها على أنها الضامن الفاعل لهذه التوافقات، وهذا يستتبع (حسب تصور الهيئة) ضرورة الاعتراف بها كطرف قادر وأمين على رعاية المصالح الدولية، وضمان تنفيذ تفاهمات الدول المعنية بحل الصراع في سوريا، لذا نرى الدوريات الروسية التركية تجري تحت أعين وحماية هيئة تحرير الشام التي ترفع شعار التحرر من الاحتلال الروسي حسب ما أعلن زعيمها، فأعداء الأمس أصدقاء اليوم عمود من أعمدة المسرح السياسي حيث يرشح الجولاني نفسه لأداء دور فيه، وما الانقلاب على الأخوة والشركاء إلا في سبيل هذا الدور.