رأي

أمريكا قدر متجلٍّ؟

الأربعاء, 18 أغسطس - 2021
لم يتغير العقل الأمريكي رغم الفشل
لم يتغير العقل الأمريكي رغم الفشل

الطريق- عبد الناصر حوشان


قال الجنرال كريتون أبرامز قائد العمليات العسكرية في الحرب الفيتنامية، عام 1972: " أنا بحاجة إلى إرجاع هذا الجيش إلى وطنه لإنقاذه".

في منتصف القرن الثامن عشر، ترسّخت لدى المستوطنين الإنكليز والأسكتلنديين الأوائل في القارة الأمريكية، عقيدة أُطلق عليها " القدر المُتجلّي " وتعني: "أنَّ هؤلاء هم قدرُ الله" على هذه الأراضي، ولا يجوز لأحدٍ منعهم من استعمارها والتوسّع فيها، وأنَّ تحقيق القدر المتجلي يتطلب انتشارَهم في جميع أنحاء القارة التي حددتها لهم السماء؛ من أجل تطوير تجربة الحرية والحكم الذاتي، وهو الحق في وجود شجرة للحصول على الهواء والأرض اللازمين لتطوير كامل لقدراتها والنمو كالمصير" ، وأصبحت هذه العقيدة من إحدى أساسيات السياسة الخارجية الأمريكية.

وترتكز هذه العقيدة على ثلاث ركائز أساسية، وهي:

-قيمة المؤسسات والمواطنين في الولايات المتحدة.

-مهمَّة توسيع هذه المؤسسات، وإعادة تشكيل العالم على صورة الولايات المتحدة. 

-"قرار الإله" في تفويض الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق هذه المهمَّة.

وفي مطلع القرن العشرين، جدَّد المؤرخ يوليوس دبليو برات أوسوليفان هذه العقيدة، واستخدمها القائمون على السياسة الخارجية للولايات المتحدة في تبرير "المهمَّة" الأمريكية لتعزيز الديمقراطية والدفاع عنها في جميع أنحاء العالم، باعتبارها تتمتع بالعقلانية وبالإحساس بالخصوصية في المسائل الاجتماعية والسياسية، ولا خوف من تدخلها في سبيل الحفاظ على النظام واحترام التزاماته، وأنَّ مكافحة الظلم المزمن الناتج عن ضعف البيئات التشريعية وغياب قوانين المجتمع المتحضر، قد يتطلب ذلك من أمريكا أو خارجها تدخل أمَّة متحضرة.

وتجلّت هذه العقيدة وترسَّخت من خلال دخول الولايات المتحدة على خط الحرب العالمية الأولى والثانية، الأمر الذي جعل منها القوة العظمى في العالم؛ حيث أصبحت تديره من خلال منظمة الأمم المتحدة، والتي سخّرت لخدمتها: مجلس الأمن، والمنظمات الدولية، والقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الانسان.

فكان التدخل الأمريكي في الحرب الفيتنامية الذي انتهى بهزيمة الأمريكان، وانسحابهم في 15 آب 1973 بعد خسارة حوالي 60000 قتيل في هذه الحرب، ومقتل أكثر من ستة ملايين فيتنامي وتهجير ملايين أخرى، وكان مجموع الإنفاق الأمريكي على الحرب 1.020 ترليون دولار من عام "1953 – 1974".

وأثبتت تلك الحرب أنَّ سبب الهزيمة هو فشل العقيدة العسكرية الأمريكية القائمة على القوة العسكرية الغاشمة.

وكانت نتائج الحرب كارثية على الشعب الفيتنامي؛ حيث وصف غابرييل غارثيا ماركيز، الكاتب الفائز بجائزة نوبل، فيتنام الجنوبية بأنها "جنة زائفة" عندما زار فيتنام بعد الحرب في عام 1980 ، وقال: كانت تكلفة هذا الهذيان سخيفة؛ فقد تمَّ تشويه 360.000 شخص، وأصبحت مليون امرأة أرملة، وتمارس 500.000 امرأة الدعارة، و 500.000 مدمن للمخدرات، ومليون مصاب بالتهاب السحايا السلي، وأكثر من مليون جندي تابع للنظام القديم، من المستحيل إعادة إصلاح هذا المجتمع وتحويله إلى مجتمعٍ جديد، ويعاني عشرة بالمئة من سكان مدينة "هو تشي منه " من أمراض خطرة عند انتهاء الحرب، وكان هناك 4 ملايين من الأميين في جميع أنحاء الجنوب.

وكانت الحرب الأولى والثانية على العراق، شاهداً آخرَ على فشل هذه العقلية الأمريكية وبطلان عقيدة " القدر المتجلّي" حيث كلّفت حرب تحرير الكويت حوالي 620 مليار دولار، وتكلفة غزو العراق 2003 أكثر من 2 تريليون دولار، وملايين القتلى والجرحى من المدنيين وتهجير عدة ملايين أخرى، وكانت خسائر الجيش الأمريكي أكثر من 7000 قتيل، وآلاف الجرحى ومصابي الحرب بين عاهات دائمة وأمراض نفسية.

وبدأت الولايات المتحدة جدولة انسحابها منه، وتركت العراق بلداً غير مستقر تعمُّ فيه الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفساد، وتركته فريسة للنظام الإيراني يعبث فيه، ومن خلاله يعبث في باقي دول المنطقة. ولم تُحقِّق الولايات المتحدة أيّاً من "واجباتها الإلهية في الأرض" لا ديموقراطية ولا حكم رشيد ولا مجتمع مستقر.

وعلى ما يبدو، فإنَّ تاريخ الهزائم الأمريكية قدرٌ إلهي؛ إذ تزامن انسحابها من أفغانستان مع يوم انسحابها من فيتنام وهو الخامس عشر من شهر آب، مع فارق زمني قدره 46 عاماً، بعد خسائر مادية تفوق 2 تريليون دولار وخسائر بشرية تجاوزت الــ 2400 قتيل وآلاف الجرحى ومصابي الحرب بين عاهاتٍ جسدية ونفسية، ومقتل 43074 مدنياً أفغانياً، و 64124 جندياً أفغانياً، مع انتشار للفساد والأمية والفقر والدعارة وتجارة المخدرات.

من استعراضٍ بسيط لثلاث حروب من الحروب الأمريكية، ومن خلال حِسبةٍ بسيطةٍ بين المكاسب والخسائر، نجد أنَّ السياسة الأمريكية الخارجية تقوم على عقيدةٍ باطلة المحتوى، إذ كان مضمونها أنَّها "قدرُ الله المُتجلّي على العالم، وأنَّ الإرادة الإلهية هي التي منحتها الحق في السيطرة والتحكم في العالم، ونقله إلى عالمٍ مستقر منتج من خلال فرض القيم الأمريكية على الآخرين، وإعادة تشكيل العالم وفق النمط الأمريكي". 

والحقيقة أنَّ هذا النمط هو أسلوب وعقيدة الغزاة الأوروبيين الأوائل إلى أمريكا، الذين أسسوا دولتهم على القوة والبطش، مع إعلاء قيمة المصلحة فوق أيِّ اعتبار أخلاقي أو ديني، والدليل عدم الأخذ بعين الاعتبار في حروبهم وغزواتهم للخسائر البشرية التي تدفعها المجتمعات، التي كان قدرها أن تعيش في تلك الدول التي طالتها الحروب الأمريكية.

وعلى ما يبدو، أنَّ العقل الأمريكي لم يُغيّر هذه العقيدة رغم ثبوت فشلها وأثرها الكارثي على العالم؛ إذ مازلنا نرى الإدارات الأمريكية المتعاقبة على اختلاف انتمائها الحزبي تكرِّر هذه الأخطاء نفسها، وكأنَّ التاريخ يحاول أن يثبت أنَّ أمريكا "مسٌّ من الشيطان " وقدر العالم أن يدفع ثمن هذا المسّ الشيطاني، ولا يُعوَّل على شيطانٍ في فضيلة.