الطريق- عبد الناصر حوشان
قال الله تعالى في كتابه العزيز: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا".
ما إن تنتشر أخبار حوادث القتل بـ"دافع شريف" على وسائل التواصل الاجتماعي، التي كان آخرها قتل طفلة " الحسكة "، حتى تتباين وتختلف ردود الأفعال وتعمّ المغالطات، ويكثر الجدل واللغط في غرف الواتس والكلوب هاوس، والخلط بين القانون والشريعة والعرف؛ فمنهم من يرجم " الضحية "، ومنهم من يرجم " الجاني"، ومنهم من يرجم " الإسلام والمسلمين "، ومنهم من يرجم "القانون "، ومنهم من يرجم "الأعراف والأخلاق والعادات "، ومنهم من يرجم " الأب والأم ".
ونظراً لِما تحتويه هذه الظاهرة من آثار خطيرة على المجتمع، ولِما تحمله من ردود أفعال مؤثرة على الوعي العام، توجَّب علينا تبيان أحكام الدافع الشريف بين الشريعة والقانون السوري، ووضع الأمور في سياقها الطبيعي والقانوني.
الدافع: عرّفت المادة (191) من قانون العقوبات العام السوري "الدافع" بأنَّه: " العلة التي تحمل الفاعل على الفعل، أو الغاية القصوى التي يتوخاها، وهو لا يكون عنصراً من عناصر التجريم إلا في الأحوال التي نص عليها القانون، ومؤدَّى ذلك أنَّ الدافع يتكون من مجموع العوامل والعواطف المثيرة للفاعل لتسوقه إلى ارتكاب الجريمة، فإذا نص القانون على أنه عنصر من عناصر التجريم، وجب التحدث عنه بشكل مفصل وإقامة الدليل عليه أو على نفيه بصورة مستقلة، وإذا كان غير مؤثر في طبيعة الجرم وتحديد العقوبة، فلا مجال للبحث عنه. وفي جرائم القتل يُعتبر الدافع مؤثراً في طبيعة الجرم وفي تحديد العقوبة، ويكون الدافع الشريف عنصراً من عناصر التجريم وسبباً قانونياً؛ فلا بدَّ من مناقشته والأخذ به إن لم يظهر من الأدلة ما يكفي للدلالة على نفيه، وذلك تطبيقا للمادة (192) من قانون العقوبات.
الأعذار القانونية: أخذ المشرّع السوري بالدافع لارتكاب الجريمة في معرض تقنين الأعذار القانونية، حيث اعتبره ظرفاً عينياً ينطبق على الواقعة بمجملها ولا يُعتبر ظرفاً شخصياً، فكانت الدوافع سبباً مُشدِّداً أو مخفِّفاً للعقوبة، وقد بيّنت المادة (258) من قانون العقوبات الترتيب الذي تسير عليه الأحكام في حالة اجتماع عدة أسباب مشددة أو مخففة، فأوجبت فرض العقوبة على الجريمة الأصلية ثمَّ يأتي دور الأسباب المشددة المادية، ثم يأتي دور الأعذار والأسباب المخففة القانونية، ثمَّ الأسباب المشددة الشخصية، ثمَّ الأسباب المخففة التقديرية.
الدافع الشريف في القانون السوري:
لقد أخذ القانون السوري بالدافع الشريف؛ حيث اعتبره عذراُ مُحلاً من العقاب في بعض النصوص القانونية. وسبباً من أسباب التخفيف القانونية في نصوص أخرى، حيث نص في الفقرة الأولى من المادة (240) من قانون العقوبات " إن العذر المُحلّ يعفي المجرم من كلِّ عقاب ".
ونص في المادة (192) منه على أنه إذا تبين للقاضي أن الدافع كان شريفاً قضى بالعقوبات التالية: الاعتقال المؤبد أو الخمس عشرة سنة بدلاً من الأشغال الشاقة المؤبدة، الاعتقال الموقت بدلاً من الأشغال الشاقة الموقتة، الحبس البسيط بدلاً من الحبس مع التشغيل، وللقاضي فضلاً عن ذلك أن يعفي المحكوم عليه من لصق الحكم.
القتل أو الإيذاء بدافع شريف:
بنى المُشرِّع السوري أحكام الدافع الشريف كعذرٍ محلّ أو مخفّف، وفرّق بينهما بناءً على حالة ووضع القاتل ووضعية المجني عليهم أثناء ارتكابه جريمة القتل أو الإيذاء، بين حالة التلبّس بالجرم المشهود وبين حالة الريبة؛ ففي الزنا المشهود الذي تفاجأ القاتل به يُعتبر عذراً مُحِلاً من العقاب، وفي حالة الوضع المريب اعتبر الدافع عذراً مخفِّفاً، وهذا ما نصّت عليه المادة 548 من قانون العقوبات رقم 148 لعام 1949.
ثمَّ صدر المرسوم رقم ( 1 ) لعام " 2011" الذي عُدل بموجبه عدد من مواد قانون العقوبات السوري، ومنها المادة (548) بأخرى نصت على اعتبار أنَّ الدافع الشريف عذر مخفِّف في كل الأحوال ورفع عقوبة مرتكبي جريمة الشرف " يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخوته في جرم الزنا المشهود، أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر، فأقدم على قتلهما أو إيذائهما، أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد، وتكون العقوبة الحبس من خمس سنوات إلى سبع سنوات في القتل" .
ثمَّ صدر القانون رقم ( 2 ) تاريخ 17-03-2021 " الذي نصّ على إلغاء المادة (548) من قانون العقوبات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم /148/ لعام 1949 وتعديلاته، والنصوص القانونية التي حلت محلها، وبالتالي إلغاء الدافع الشريف كعذر في جرائم القتل والإيذاء.
السياسة العقابية والدافع الشريف في الشريعة الإسلامية:
إنَّ من أعظم رحمات هذه الشريعة السمحاء ما جاء بالحديث النبوّي الشريف، في مسند أبي حنيفة للحارثي، الذي رواه عبدالله بن عباس عن الرسول صل الله عليه وسلم: " ادرؤوا الحدود بالشبهات "، وقال سيدنا عمرُ بنُ الخطاب رضيَ اللهُ عنهُ: " لئِن أعطل الحدودَ بالشبهات، أحبُّ إليَّ من أن أُقيمَها بالشبهات ". وهذا أمر صريح وواضح لولاة الأمور من العلماء والأمراء والحكّام والقضاة بأن يدرؤوا الحدود بالشبهة التي توجب الشك في ثبوت الحد، فإذا لم يثبت عند الحاكم الحد ثبوتاً واضحاً لا شبهة فيه فإنه لا يقيمه، ويكتفي بما يردع عن الجريمة من أنواع التعزير، لذلك كانت السياسة العقابية في الإسلام تقوم على القواعد الآتية: تحقيق العدالة، وتحقيق الردع، وإصلاح الجاني.
1 - تحقيق العدالة: إنَّ حياة الإنسان وممتلكاته وعرضه، من الأمور الواجبة الاحترام؛ وبالتالي فليس من العدل في شيء ترك الإنسان الذي يتعرض لهذه الأمور دون أن يطاله شيء.
2 - تحقيق الردع: الردع العام يكون بإنذار الجماعة بشرها، إذا ما ارتكب أحد أفرادها فعلاً يعد جريمة، أو بمثل العقوبة التي تصدر ضدَّ الجاني إذا ارتكب فعلاً مجرماً وتثبت مسؤوليته، فوظيفة العقوبة هنا تهديدية، والردع الخاص ويكون فيما يتركه ألم العقوبة من أثر نفسي في المحكوم عليه، يحول بينه وبين العودة إلى الإجرام مرة ثانية.
3- إصلاح الجاني: فالعقوبة إنَّما قررت لإصلاح الجاني، لا للانتقام من الجاني والتشفي منه، فالمجرم إذا شعر بالألم وأحس به فإنه سيشعر حتماً بمقدار ما تسبب به للآخرين من الألم؛ ممَّا يولّد حالة صحوة الضمير في نفسه ذلك الذي يدفعه إلى تأنيبها، ممَّا يؤدي بالنتيجة إلى الإقلاع عن الأعمال الإجرامية.
مسؤولية تطبيق القانون وتنفيذ العقاب:
-القاعدة الأولى: لا يجوز إقامة الحدود في غياب السلطان المسلم "فلا يقيم الحدود إلا السلطان المسلم، أو من ينوب عنه"، من أجل ضبط الأمن، ومنع التعدي، والأمن من الحيف، وعلى العاصي الاستغفار والتوبة إلى الله، والإكثار من العمل الصالح، وإذا أخلص لله في التوبة تاب الله عليه، وغفر له بفضله وإحسانه.
-القاعدة الثانية: لا يطالب بإقامة الحد ولا يقيم الحدود، إلا الحاكم المسلم، أو من يقوم مقام الحاكم، ولا يجوز لأفراد المسلمين أن يقيموا الحدود؛ لما يلزم على ذلك من الفوضى والفتنة.
الدافع الشريف والدفاع الشرعي في الشريعة الإسلامية:
لا يوجد في الشريعة الإسلامية ما يسمَّى "القتل أو الإيذاء بدافع شريف " وبالتالي لا وجود لمفهوم " جرائم الشرف ".
الدفاع الشرعي الخاص: ويسمى فقهاً بـ" دفع الصائل" وقانوناً بـ"الدفاع المشروع " وتُستمدّ أحكامه من قوله تعالى: "فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ".
وقد اتفق الفقهاء على أنَّ الدفاع الشرعي شُرِّعَ ليحمي الإنسان نفسه أو غيره من الاعتداء على النفس والعرض والمال، واختلفوا فيما بينهم في تكييفه الشرعي فيما إذا كان حقٌّاً أم واجباً، ويترتب على ذلك بأنَّ الواجب لا يجوز التخلّي عنه كلما كان في مقدوره، وإن كان حقّاً فلصاحبه حرية دفع الاعتداء أو عدم دفعه.
ولكنهم اتفقوا جميعاً على أنَّ " دفع الصائل أو المعتدي واجبٌ على المدافع في حالة الاعتداء على العرض؛ فإذا أراد رجل امرأة عن نفسها ولم تستطع دفعه إلا بالقتل، كان الواجب عليها أن تقتله إن أمكنها ذلك؛ لأنَّ التمكين منها محرّمٌ وفي ترك الدفاع عنها تمكين منها للمعتدي ". وكذلك شأن الرجل يرى غيره يزني بامرأة أو يحاول الزنا بها ولا يستطيع أن يدفعه إلا بالقتل، فإنه يجب عليه أن يقتله إن أمكنه ذلك. وهذا ما قضى به سيدنا عمر بن الخطاب بضيف بني هذيل الذي أراد امرأة منهم على نفسها فرمته بحجر فقتلته، فقال سيدنا عمر: " ذلك قتيلُ الله لا يُوَدّى أبداً " أي لا ديّة له.
حدّ الزنا وشروط إثباته:
لقد تشدّدت الشريعة الإسلامية في إثبات جريمة الزنا؛ لما لها من مخاطر على حياة الأفراد وعلى الأسرة والمجتمع؛ حيث حدَّدت طرق إثباتها: إمَّا " بأربعة شهود بحيث يكون لكل طرف في الزنا شاهدان، يشهدون شهادة بينة واضحة لا لبس فيها، تتفق بالتفاصيل الدقيقة للجريمة، وإمَّا بالإقرار من طرف الزاني إقراراً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، وإمَّا بالقرائن التي يعتد بها في الزنا، وهي ظهور الحمل عند المرأة غير المتزوجة، وإنجاب المتزوجة لطفل في أقل من ستة أشهر من تاريخ زواجها، ولا يصح إثبات جريمة الزنا بتقرير الفاحص الكيماوي، وتقرير مختص في بصمات الأصابع.
ويسقط حد الزنا إذا تخلف شرط من شروط الإحصان أو اختل، أو إذا امتنع الشهود أو أحدهم عن أداء الشهادة، اختلال الشهادة أو تخلف شرط من شروطها أو الرجوع عنها قبل التنفيذ، قول عَدْلَه أن المزني بها عذراء أو رتقاء، دعوى الشبهة المحتملة، دعوى الإكراه المحتملة، الرجوع بعد الإقرار.
قواعد فقهية في مسألة تطبيق حد الزنا:
القاعدة الأولى: الأصول اليقينية تعني أنه لو ثبتت جريمة الزنا على غير المحصن ذكراً أو أنثى، فلا يُحَد بالقتل باتفاق الفقهاء، وكل من يعتدي عليه بقتله، فقد وقع في جريمة إزهاق النفس بغير وجه حق، ولم يقِم حداً ولا شرعاً، أمَّا إذا كانت تهمة الزنا موجهة للمحصن، فالأحكام الشرعية في الإسلام تبنى على اليقين وغلبة الظن المبني على الأدلة الواضحة، ولا تبنى الأحكام على الشك والوهم، والجهل بهذه الأحكام يدفع البعض بالحكم بالقتل على الفتاة البكر، وعقوبتها الشرعية " الجلد " لو ثبت عليها الزنا بالبينة أو الإقرار الحر أربع مرات، أو ربّما يحكمون عليها بكبيرة الزنا، وهي لم تزن، بل ربما لمجرّد لقاء بينها وبين رجل، لا يوجب القتل، بل لا يبيح القتل.
القاعدة الثانية: إنَّ إقامة الحدود من اختصاص ولي الأمر، أو نائبه على الزاني ونحوه ممَّن يستحق الحد فيها، ولا يجوز لأهل مرتكب الزنا في دولة لا تحكم الشرع إقامة الحد عليه، لاسيما أنهم يُفرّقون بين الرجال والنساء، أو بين الأبناء والبنات، في التعامل مع الزاني منهم، حيث يقتلون البنت الزانية، ولا يؤنِّبون الأبناء.
القاعدة الثالثة: لا يجوز للوالد إقامة الحد على ولده إذا ارتكب جرماً يستوجب حداً، بحجة أنَّ الولد في رعية والده، والوالد مسؤول عن رعيته؛ لآنهم غالباً ما يأخذون بالإشاعات، وتصديق الاتهامات الباطلة، ولا يحققون فيها تحقيقاً قضائياً عادلاً مثبتاً، مع أنَّ الأصل في الإنسان السلامة، وفي المتهم البراءة، ويعطون لأنفسهم سلطة المفتي والمحقق والقاضي والشرطي جميعاً.
القاعدة الرابعة: لا يجوز لزانٍ وزانية محصنَيْن ــ اعترفا أمام المحكمة بجريمة الزنا، وطلبا من المحكمة تطبيق الشريعة الإسلامية في حقهما؛ لكن المحكمة طبقت عليهما حكم القانون الوضعي ــ أن يقتلا نفسيهما، ولكن عليهما التوبة والاستغفار والندم على ما مضى، وحفظ فروجهما والستر على نفسيهما مستقبلاً.
ولانتشار هذه الظاهرة في كثير من البلدان، في ظل الفوضى وغياب السلطة وتغليب هذه الأعراف القبلية والتقاليد المقيتة على أحكام الشريعة والقانون، فمن الواجب الوقوف عند حدود الله تعالى، والتقيد بأحكام شرعه، ونقول لمن يدّعي بأنه يغسلُ عاره بدمٍ حرام: إنَّ القتل هو من يؤكِّد عارك ويورِّثه لمن يخلفك، غسل العار يكون بإقامة الحجة، والبينة، والاحتكام إلى القضاء، فصكّ البراءة هو حجتك في قطع لسانِ كل من يُعيّرك أو يحطّ من شرفك أو يتعرّض لعِرضك.
على الجميع أن يتحمّل مسؤولية التصدّي لهذه الظاهرة، لا سيما بعد الانفتاح الواسع على التقنيات الحديثة ووصولها إلى يد الجميع، والتي أصبحت وللأسف مراجع في التشريع والقانون، كما أصبحت ميداناً بلا ضوابط لممارسة الحرّية التي يتم تشويهها وتضليل طُلّابِها واعتبارها قيمة مطلقة وسامية فوق كل دينٍ أو مُعتقَدٍ أو قانونٍ أو عرفٍ أو خُلُقٍ، ممَّا أدى إلى انتشار الفوضى الدينية وفساد العقيدة وانحلال القيّم الأخلاقية الحميدة، وتفكك الروابط الاجتماعية والأسرية، والخروج والتمرّد على الأعراف والتقاليد الأصيلة، كما يجب على بعض التيارات الفكرية التوقّف عن استغلال هذه الظاهرة ـ التي لا تنحصر بالمجتمعات الإسلامية ـ للطعن عن جهلٍ أو عن خُبثٍ وعداوة بالإسلام والمسلمين، الذين يجادلون في الله بغير علم ويتبعون كل شيطان مريد، كما يجب على من يدّعي دفاعه عن الإسلام والمسلمين أن يتحلى بالعلم والفقه والفهم، والابتعاد عن الهوى والرأي، الذين قال الله تعالى عنهم، في كتابه العزيز: "وَمِنَ النَّاسِ من يُجادِلُ في اللهِ بغيرِ عِلْمٍ ولا هُدَىً ولا كتابٍ مُّنير".