باسل معراوي
إنها طبخة حصى، حيث ظَن القيصر نفسه أنه مازال سيد اللعبة في سورية (على الأقل في مجموعة أستانة) وأنه قادر على توظيف القوة الروسية بفرض ما يربد أو إعطاء الحصص كيفما يريد، أو حتى توزيع الأدوار.
يتعالى القياصرة والجبابرة على نقاط ضعفهم أو لا يرونها حتى.
فهذا القيصر الجبار الذي أحال سورية إلى خراب وتدلل حتى زَج بقواته في سورية إلى أن ناشده الجميع وترجوه بالتدخل.
كان القيصر ينظر من بعيد إلى الفريسة السورية ويدرك أن اختلاط الأوراق وفوضوية المشهد الذي كان وراء إخراجه إلى المسرح راعي البقر الأمريكي (الديمقراطي) إن كان لتطبيق نظرياته بالفوضى الخلاقة أو استراتيجية طحن الخصوم (الفصائل الجهادية السنية والشيعية) أو حتى استنزاف كل القوى المعادية لشعب الله المختار، أو قد يكون من المكن تنفيذ مخطط نراه يترسخ على الأرض ولكن لا أحد يريد الاعتراف به وهو إضعاف الجمهورية التركية تمهيدا لتقسمها والانقلاب على اتفاقية لوزان التي توجت انتصار أتاتورك إلى معاهدة سيفر، وبالتالي نجاة تركيا من سايكس بيكو تم ترسيخه بالشرق العربي، ونجى منه الأتراك بعد هزيمة امبراطوريتهم العثمانية، وذلك بسبب خوف الغرب من تمدد الثورة البلشفية الروسية للمياه الدافئة وحاجتهم لتركيا موحدة وقوية.
كل تلك الفوضى التي سادت المشهد السوري والذي هو جزء من المشهد الشرق اوسطي، كانت بحاجة الى ضابط إيقاع قوي خوفاً من خروجه عن السيطرة، خاصة إن نظام الملالي الإمبراطوري المذهبي لا يقبل الهدايا ولا يُوفِ بالتعهدات ولا يُؤمَن جانبه، ولا يستطيع التمدد وتحقيق المكاسب إلا بإتباع استراتيجية الفوضى والتفاوض بوقت واحد.
لم يستطع سيد البيت الأبيض والذي وصل اليه بخطاب واستراتيجية سحب الولايات المتحدة من مستنقعات الحروب في الشرق الاوسط، فسحب قواته من العراق في 2011 وذلك في تدشين لنهاية عهد الانتقام الأمريكي الذي أخرج به الرئيس جورج بوش دولتين من الحاضر والمستقبل ورمى بهما الى العصور الحجرية رداً على تعفير الجبهة الأمريكية بالتراب بضربات أيلول 2001 التي نالت من القلب الأمريكي المنتشي بقطبية أحادية وقتها.
لم يتمكن الرئيس أوباما من القيادة من الخلف وتم دفعه من قبل قاسم سليماني للتورط بحرب داعش في مساحات واسعة تمتد من شمال بغداد إلى الموصل وصولاً إلى ضواحي حلب، وأحضر العم سام معه عشيرته الدولية للقضاء على تنظيم داعش الإرهابي.
كان في مخيلة الدب الروسي المفترس هضم فريسته الأوكرانية عندما وجد أن لا أحد هَب لنصرتها، وقد يكون فكر أيضا ببيع خدماته في سورية للعم سام مقابل اعترافه بشرعية انفتاح روسيا على العالم عبر البحر الأسود بوصوله إلى شبه جزيرة القرم.
قد يكون القيصر الروسي طمع أكثر من ذلك بعد مباركة الجميع لتدخله المباشر في سورية، الخليج لا يريد وقوع سورية بالقبضة الايرانية ويريد منافسا قويا لذلك النفوذ أو الاحتلال، وحلف المقاومة والمخدرات كان يُلح على القيصر قبل سنوات ولكن القيصر كان يريد إنهاء الغزوة الأوكرانية واستغلال الضعف والتراخي الأمريكي تجاهه.
وبعد زيارة مشهودة لقاسم سليماني لموسكو، أتت جحافل المغول الروسية لسورية ليبدأ فصل جديد من التآمر الدولي على الشعب السوري الثائر.
راهن الجميع (وأولهم الولايات المتحدة) على صراع روسي – تركي بارد أو ساخن في سورية، ولكن خَيب القيصر والسلطان أمانيهما وبادرا إلى طي صفحة تاريخية حبلى بالعداوة والحروب، وتوافقا على مراعاة مصالح بعضهما بل كان القيصر يرمي من وراء صداقة السلطان وتقديمه للهدايا له في سورية وأذربيجان وليبيا وحتى بعلاقاته الاقتصادية مع تركيا نفسها إلى إحداث شرخ كبير أشبه بالصدع الاستراتيجي في حلف الناتو بسحب تركيا منه أو على الأقل استثمار ذلك الصدع لمشاريعه الكبرى (وقد نجح في ذلك جزئياً) فكان الموقف التركي من غزوه لأوكرانية بعيد كل البعد عن الموقف الناتوي أو الغربي عموماً.
تأسس في سورية مساران مناهضان للمسار الأممي المدعوم أمريكياً وذلك بإنشاء مسار أستانة عام 2017، وضم الروس والأتراك إليه الإيرانيين وبحضور وفدي النظام والمعارضة عندما تقتضي المسرحية ظهورهما على الخشبة وأحياناً أخرى بحضور دولي أو لدول جوار سورية كمراقبين لإعطائه بعداً إقليمياً ودولياً، لكن المسار الموازي والحقيقي الآخر والذي نشأ بفعل توافق كاريزما وتفكير وأهداف السلطان والقيصر أُطلق عليه تفاهمات أو مسار سوتشي كانت في خلواتهما تُطبخ التفاهمات الكبرى وتُعطى للمساعدين أوامر تنفيذها بخطة عمل يومية أو أسبوعية.
ظَن القيصر الروسي المخمور بأوهام العظمة والقوة والخيلاء أنه سيخضع الغابة الأوربية وبعدها العالمية لمشيئته خلال أيام أو أسابيع وأرسل جيوشه التي ظَن أنها ستُستقبل بالأرز والورود ليس حباً بها بل خوفا منها على الأقل واتقاءً لشرها، وإذ بالسلاحف الأوكرانية الصغيرة المندفعة من أوحال السهول تنهش من جسده الضخم والثقيل وهو لا يشعر بالألم أو لا يريد أن يشعر، إلى أن بدا الألم يَدب في أطرافه ليتوقف عن المسير ويتراجع إلى الخلف قليلاً تراجعا مكانياً والأمر تراجعاً بسقف الأحلام والأوهام، آملاً بأن تتوقف تغذية السلاحف الأوكرانية وقطع الطعام عنها من غرب الكرة الارضية.
انعكس الوهن الروسي بالتأكيد على الساحة السورية وظهور تَنمر الجرذان الإيرانية والأسدية عليه وعدم انصياعهما لإرادته كما كانوا في السابق، وأظهر السلطان قدراً من التحرر من هيبة القيصر فقام بإقفال المضائق البحرية أمام الأسطول الروسي وقام بتفعيل اتفاقية مونتيرو باعتبار ما يدور في أوكرانيا حرباً وليس عملية عسكرية كما يُصر صديقه الروسي على وسمها، وأقفل خطوط الملاحة الجوية للأغراض العسكرية أمام قوات القيصر في سورية، واحتفظ لنفسه بجعل تركيا الرئة الرئيسية التي يتنفس منها الاقتصاد الروسي المعاقب غربياً.
يحاول منذ الصيف الماضي القيصر تصدير صورة لشعبه أولاً وللعالم ثانياً بأنه مازال القوة العظمى المرهوبة الجانب والتي تملك أدواراً عالمية، فحاول تأسيس مسار تصالحي بين أردوغان والأسد عبر مسار بدا ثلاثياً بينهم، ويرمي الرئيس الروسي من وراء ذلك أيضاً إلى تقوية الدور التركي في سورية خشية من تعاظم الدور الإيراني الآخذ بالتمدد على حساب تآكل الدور الروسي نفسه وبقاء نفوذ للقيصر باللعب على التناقضات بين الخصمين اللدودين، وخشيته من فقدان معظم نفوذه بسورية بسبب تعاظم دور إيراني غير مرحب به دولياً وعربياً ولا يأبه مستقبلاً لأي مطالب روسية.
فرض الإيرانيون أنفسهم بقوة على المسار الثلاثي الجديد وأصبح رباعياً وذلك لرغبتهم بتفخيخه وتعطيله وتفجيره لاحقاً إذا ما كان ذلك التفجير يصب في صالحهم، خاصةً أن إيران تشعر الآن بفائض من القوة بعد محاولتها الاندماج إقليمياً بمحيطها العربي بعد استحالة أو تعذر الاندماج الدولي، حيث أمنت لها المملكة العربية السعودية هذا الغطاء إلى حين تُثبت إيران جديتها باستمراره، وبالتالي تمكنت إيران من تحرير جهود ميليشيات كثيرة وتوجيه بوصلتها إلى إسرائيل والولايات المتحدة وتقوية نفوذها في سورية، والتهيؤ للعب أدوار أكبر وقد تكون أخطر، كأحد أضلاع المحور الشرقي (الصيني – الروسي – الإيراني).
كانت الألغام الإيرانية واضحة بتعطيل ذلك المسار الرباعي من وصوله لمبتغاه الروسي التركي، وبالتأكيد لا ترغب إيران بإعطاء تلك الورقة الانتخابية لحزب العدالة التركي ورئيسه على أبواب معركة الانتخابات التركية آملةً بذلك من تعزيز حظوظ مرشحها المفضل ذو الاصول الإيرانية والمذهب العلوي وذو الاتجاه السياسي العلماني القومي القريب من الأسد.
ولم يتمكن القيصر منذ الصيف الماضي عند إطلاق مشروعه للتقريب بين أنقرة ودمشق سوى من عقد لقاء هام في 28 كانون أول الماضي في موسكو كانت قمة مخابراتية عسكرية ثلاثية، ونام الملف بأدراج التعطيل الإيراني والغبار الناجم عن الزلزال الطبيعي السوري التركي إلى أن حاول القيصر الروسي نفض غبار أهل الكهف عنه لإعادته إلى الحياة وتمكن من اختراق محدود بالجدار السياسي للمسار عبر لقاء فاشل بامتياز على مستوى نواب وزراء الخارجية الأربعة أعاد الملف إلى ما تحت نقطة الصفر السياسية، واستجمع القيصر قواه الناعمة المتآكلة وكَر كرة ثانية وتمكن من عقد قمة رباعية أمنية عسكرية في موسكو في 25 نيسان الحالي لم تسفر إلا عن مبارزات كلامية داخل القاعة، وليخرج الخصوم الأتراك والأسديون ويتراشقوا الاتهامات عبر إصدار بيانات مختلفة عن الاجتماع، كل واحد يُوجه كلامه لعشيرته، فالتركي يقول إن البحث تناول مسائل التطبيع بين أنقرة ودمشق، فيما تقول دمشق إن موضوع الانسحاب العسكري التركي هو ما تم مناقشته وأن التطبيع يدخل ضمناً كنتيجة لذلك الانسحاب في محاولات عنترية مكررة من نظام الأسد لجمهوره البائس والذي يتملكه شعور النصر ويعيش واقع الهزيمة.
إنها طبخة حصى روسية لن تنضج أبداً، أو على الأقل حتى تغيير الحصى والطنجرة وموقد النار وقد يصل الأمر لتغير أو تغيير للطهاة أنفسهم.
المصدر: نينار برس