رأي

أسباب تراجع الخدمات الطبية في الشمال السوري المحرَّر

الخميس, 21 أبريل - 2022

الطريق- باسل معراوي


بحسب منظمة الصحة العالمية، يحتاج 3.1 مليون شخص من إجمالي 4.4 مليون في شمال غرب سورية إلى مساعدة صحية؛ حيث تحتاج المشافي والمراكز الصحية إلى دعم تشغيلي ورواتب وأدوية ومستهلكات طبية، وهي تأتي من مانحين دوليين، من منظمة الصحة العالمية ومنظمات إنسانية دولية.

لقد استنزفت سنوات الحرب الطويلة النظامَ الصحي القائم في الشمال الغربي، ومنذ بداية الحراك الثوري وضعت ميليشيا النظام السوري وطيرانُ حلفائه استهداف البنية التحتية للنظام الصحي ضمن الأهداف الأولى لإخراجه من الخدمة؛ لأنَّ النظام الصحي أحد أهم مقومات الصمود بوجه العدوان، فكان استهداف المنشآت الصحية يتقدّم على الأهداف العسكرية في كثيرٍ من الأحيان، كإحدى أهم أهداف الأرض المحروقة التي انتهجتها ميليشيا النظام والعدو الروسي.

وبربيع 2020، بعد الاستقرار النسبي للعمليات القتالية، داهمتها جائحة كوفيد 19 بتداعياتها الكارثية، والتي دمَّرت و كشفت عورات أنظمة صحية عريقة بدول مستقرة أيضاً، فكان من الطبيعي أن تكون النتائج الكارثية بادية أكثر بالقطاع الطبي في الشمال المحرَّر.

يعاني الشمال المحرَّر، خاصة كتلة المخيمات التي تضم مئات آلاف النازحين السوريين، ظروفاً معيشية غاية في الصعوبة.

ورغم توفر الأمان النسبي بالعامين الأخيرين، إلا أنَّ هاجس الأمن لا يفارق الجميع، إضافة إلى شبه انعدام بفرص العمل. وإن توفرت بعض الأعمال المهنية البسيطة، فهي لا تكاد تسد الاحتياجات الأساسية، إذ لا يتجاوز الأجر اليومي للعامل في الشمال المحرَّر 30 - 40 ليرة تركية باليوم (هذا إن توفر العمل بشكلٍ شهري) وهو أقل من 3 دولارات باليوم، إضافة إلى أنَّ أغلب الموظفين من مدنيين وعسكريين لاتصل رواتبهم لحافة الـ100 دولار شهرياً.

ما أودُّ الإشارة إليه؛ هو أنَّ تلك الأجور لا تمكِّن الأسرة من مراجعة القطاع الطبي الخاص (المتواضع جداً بالأساس) إذ يعتمد الأهالي باستشفائهم على مراكز الرعاية الأولية والمشافي المدعومة كلها من منظمات دولية، التي تقوم منظمات سورية بتشغيلها وإدارتها.

ومن خلال معايشتي للواقع الطبي في هذه المناطق، أعتقد أنَّ نسبة تفوق الـ90% من المستفيدين يعتمدون عليها بشكل أساسي، ولا يسعنا إلا أن نذكر سلسلة المشافي الحديثة التي أقامتها الحكومة التركية في أغلب المناطق، وتوزيعها جغرافياً بشكلٍ يؤمّن وصول الخدمة للمناطق جميعها، والتي تقوم بدورها بتحويل الحالات الطبية المعقدة، في حال عدم توفر الكوادر أو التجهيزات في الشمال المحرّر، للعلاج في المشافي داخل الدولة التركية. 


أسباب تراجع الدعم الطبي في الشمال السوري

1- بدأ الدعم المقدّم من المنظمات الإنسانية والدول المانحة يتناقص تدريجياً في الأعوام الأخيرة، وقد بات واضحاً إغلاق 18 مشفى في الشمال الغربي بخريف العام الماضي. ولكن الخوف تزايد بنهاية الشهر الثاني من هذا العام، مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي تسبّب بعد شهرين من وقوعه إلى نزوح ما يقارب الـ5 ملايين أوكراني إلى دول الاتحاد الأوربي. أيضاً تحوّل أوكرانيا إلى بلد نزاع مسلح تحتاج إلى تركيز الانتباه والجهود إليها، وكل ذلك سينعكس على أولوية الملف الإنساني السوري...هذا من الناحية السلبية، وقد ينعكس ذلك إيجاباً أيضاً بتركيز كل وسائل الإعلام الغربية على المعاناة الإنسانية السورية، التي سبّبها العدو نفسه في أوكرانيا ولم تلقَ الاهتمام الكافي، وقد يلجأ الكثيرون لتلافي تقصيرهم تجاه المعاناة السورية. 


2- بعد دخول المعاناة السورية عقدها الثاني، لاشكَّ أنَّ الدعم أو المانح تم إنهاكه أو استنزافه، وهو قد يرى أنه قدم الكثير للمعاناة السورية، ولابدَّ له من الاهتمام بغيرها ..الأمر الذي يؤدي إلى توجه بعض الجهات المانحة، للاهتمام بأماكن الحروب أو النكبات في مناطق أخرى من العالم.

3- برز مؤخراً للتداول الإعلامي مفهوم أو مصطلح التعافي المبكّر؛ وهو أحد أشكال المساعدة الإنسانية التي تتبناها الأمم المتحدة ببرامج استجابتها.

وهي باختصار؛ شكل من أشكال الاستجابة الإنسانية، لكن ليست طارئة لحفظ الحياة كتأمين سلة الإغاثة والخدمات الصحية، بل نوع من الاستجابة تتبناها المنظمات الدولية في حال استمرار النزاع دون الوصول لحل سياسي أو البدء به، بل بتوقف القتال أو انخفاض منسوب العنف، لكن مع استمرار الأزمة الكبرى، وهو يختلف جذرياً عن إعادة الإعمار، بل يمكن اعتباره الحلقة الوسطى بين الاستجابة الطارئة وإعادة الإعمار. ويتضمن الإنعاش أو التعافي المبكر خططاً لكسر اعتياد الأسرة على السلة الغذائية كمصدر للحياة، بل ضخ الأموال لإصلاح بعض مرافق البنية التحتية؛ كـ(تأمين مياه الشرب النظيفة، وإصلاح شبكات صرف صحي، وإصلاح مدارس، وطرقات ..الخ)، وكل ما من شأنه تحفيز الأسرة والمجتمعات المحلية على إعادة بناء هياكلها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية التي دمرتها الحرب.

يختلف الإنعاش المبكِّر عن إعادة الإعمار بنقطتين جوهريتين:

-الإنعاش المبكر تقوم به المنظمات الإنسانية الأممية بالتعاون مع الفاعل الإقليمي..ولا يحتاج لحكومة مركزية مجمع عليها داخلياً وخارجياً، الشرط اللازم لإعادة الإعمار.

-الأموال المقدّمة ببرامج الإنعاش المبكّر، هي جزء من المساعدات الإنسانية المقدمة، لا تستوجب سدادها، كما هو حال إعادة الإعمار الذي يتم بموجبه منح قروض ميسرة.

لذلك؛ أرى أنَّ الاهتمام بمشاريع الإنعاش المبكّر قد تتطلب قسماً من الأموال التي كانت تقدَّم للمؤسسات الطبية بشكلها القديم، وقد يؤدي ذلك إلى التقليل من الانتشار الجغرافي للمشافي الصغيرة، والاستعاضة عنها بمشافٍ مركزية ضخمة تحتوي إمكانات أكبر، والتقليل من برامج الرعاية الصحية  الثانوية وحصرها بالبرامج الأساسية.

لايزال الدعم المقدَّم للشمال السوري من المانحين الدوليين دون الطموح أو الحاجة، ولابدَّ من تأمين السوريين المغتربين بالخارج الأموال اللازمة، لزيادة دعم المنظمات الناجحة والقليلة التي أنشؤوها والتي أثبتت فاعليتها خلال عقد المعاناة المنصرم، والعمل على إنشاء منظمات أو هيئات داعمة لمختلف القطاعات لأهلهم في الشمال، إذ إنَّ التعويل عليهم كبير في دعم مجتمعاتهم والنهوض بها.