رأي

سياسة حافة الهاوية التركية مع أمريكا في سوريا

الأحد, 18 ديسمبر - 2022

د. باسل معراوي


يمكن أن تكون القمم التي عقدت في الصيف الماضي (قمة جِدة وقمة طهران) هي وراء ما نشهده من تحولات جوهرية بالموقف التركي حيال الملف السوري وبالذات ظهور الرغبة التركية بالانفتاح على نظام الأسد وإصلاح العلاقات معه.. الأمر الذي لم نشهده خلال السنوات الست السابقة من عمر محور أستانة حيث كانت القيادة التركية تقاوم كل الضغوط الروسية لتحقيق تلك المصالحة مع عِلمنا أن الكفة العسكرية بعد التدخل الروسي العسكري كانت لا تميل لصالح تركيا في سورية ولم تحصل تلك الانعطافة التركية تجاه نظام الأسد 

وبعد انطلاق 18 جولة من محادثات أستانة وكانت الدول الثلاثة حاضرة ووفدي المعارضة والنظام حاضرين.. والغموض او الصمت الدولي سيد الموقف بحضور مبعوث الأمم المتحدة للملف السوري بيدرسون مع تبني المجتمع الدولي لإحدى منتجات ذلك المسار(اللجنة الدستورية) واعتبارها من أدوات الحل السياسي وعقدت اللجنة برعاية أممية عدة جولات في منحى رآه البعض كمقدمة لفرض حل روسي للمسألة السورية في حين رآه الآخرين أنه لا يعدو أن يكون إدارة للأزمة بانتظار تلك اللحظة التي تتوافق بها روسيا والولايات المتحدة على الحل أو حل يؤمن مصالحهما ومصالح الفاعلين الإقليميين.. الأمر الذي يؤشر إلى كون الانفتاح التركي على الأسد لم يكن واردا بل التواصل مع الرعاة الكبار له يكفي.. 

لم تتوفر تلك اللحظة الحاسمة حيث اختصم الفرقاء المعنيون بالملف السوري وتحاربوا في أوكرانيا وانهار أي أمل بحدوث ذلك التوافق العتيد.. وتلاشت فرص توقيع اتفاق نووي جديد بين إيران والغرب. وساد جو من التحسن في العلاقات الأمريكية – التركية بُعيد الغزو الروسي لأوكرانيا لم يدم طويلاً.. حيث كان الساسة الأتراك يعتقدون أن زمن انتزاع التنازلات من الولايات المتحدة قد حان، وان الحاجة الغربية لموقف تركي متماه مع الشركاء في الناتو والجار الأوربي لدعم الموقف ضد الغازي الروسي ستؤدي لانتزاع ما كان صعباً.  حيث لم تعرف العلاقات بين روسيا وتركيا على مر التاريخ إلا شهر عسل قصير عمره بضع سنوات بعد تشكيل مسار أستانة 

خاب الظن التركي من مواقف الولايات المتحدة حيث أبدت رفضاً قاطعاً لأي قضم تركي لمناطق نفوذها بالشمال الشرقي في سورية وهي الرغبة التي أبداها القادة الأتراك اعتباراً من شهر أيار بعزمهم على طرد قوات سورية الديمقراطية من الشريط الحدودي مع تركيا إلى عمق 32 كم… 

أتم الأتراك كل الاستعدادات العسكرية واللوجستية مع حليفهم الجيش الوطني السوري. وتم خوض المعركة عبر وسائل الإعلام وتحديد المناطق المستهدفة من العمليات ولم يتبق إلا ساعة الصفر، ووضع الجميع أياديهم على قلوبهم ترقبا لانطلاق صافرة البداية من الحكم الأمريكي، لكن ذلك لم يحصل. 

باتت القيادة التركية على قناعة تامة أن للولايات المتحدة مشروعها الخاص في سورية ويمكن أن نطلق عليه أهداف استراتيجية ليس محاربة داعش منها بل تأسيس حالة خاصة كردية تشبه إلى حد ما ماهو موجود في شمال العراق، ولو كان الأمر غير ذلك لكانت الولايات المتحدة وفي هذه اللحظة التركية الخالصة بأخذ تركيا لموقف حازم تجاه روسيا والانخراط بالحصار الاقتصادي والعقوبات الهائلة المفروضة على روسيا، وفضلت الولايات المتحدة موقف تركي محايد من الحرب في اوكرانيا (وهو اقرب للروس ) على إعطاء ما تريده أنقرة في مناطق النفوذ الأمريكية في سورية. 

جرت قمة جدة بين جزء من العرب والأمريكان في منتصف تموز، وأكدت تصريحات الرئيس بايدن وغيره من الساسة الأمريكان عن عودة الولايات المتحدة للمنطقة بقوة وعدم السماح للأفرقاء الثلاثة (الصين، روسيا، إيران) بملء أي فراغ في الشرق الأوسط. 

وبدا أن المنطقة دخلت في حرب باردة على وقع الحرب الساخنة التي تدور رحاها على البوابة الشرقية لأوربة، وبما معناه كما فهمه الساسة الأتراك أن لا مواقع موجودة بها الولايات المتحدة الآن مستعدة للانسحاب منها وإخلائها في ذروة هذا الصراع والتي من المرجح أن تكون بنظر واشنطن مناطق نفوذ إيرانية روسية مستقبلاً، حيث على ما يبدو نظرت الولايات المتحدة لحليفها التركي في الناتو أنه أقرب إلى موسكو منه إلى واشنطن. 

اللهجة التركية والتي تعبر عن موقف سياسي حيال الملف السوري برزت بعد قمة ثلاثي أستانة في طهران بعد أيام قليلة من انفضاض قمة جدة. 

وبدأ التحول التركي في انتهاج مواقف لم تكن معهودة وبدأنا نسمع من المسؤولين الأتراك عن رغبتهم بإصلاح العلاقات مع نظام الأسد، الذي بدأت المصطلحات بالتغير نحو الحكومة السورية والرئيس السوري تعبيراً عن الحنق التركي من السياسة الأمريكية في سورية والسير بركاب المناكفين لتلك السياسات شريكها في محور أستانة عندما تمت الإشارة رسمياً وبالبيان الختامي الذي صدر عن القمة بأن القوات الأمريكية هي قوات احتلال غير شرعية في سورية وأنها سبب عدم الوصول الى تسوية دائمة للمأساة السورية بل وأنها ترغب بإطالة أمد الأزمة لتحقيق أجنداتها الخاصة. 

كان هذا الموقف التركي الضاغط على الولايات المتحدة بتوثيق عُرى التحالف مع الأعداء في سورية بل وبمحاولة توسيع التنسيق بين الدول الثلاث التي شكلت محور أستانة ونقله من التنسيق بالملف السوري فقط إلى جعله محوراً إقليمياً يُنسق بمختلف ملفات المنطقة، وتم دعوة الرئيس التركي لحضور قمة البريكس في سمرقند إلى جانب الرئيسين الروسي والإيراني وتم تسريب أخبار عن نية أنقرة التقدم بطلب لعضوية تلك المنظومة (المفترض أنها بهيمنة شرقية معادية للغرب ومؤسساته الدولية). 

حدثت لحظة الفرصة الأخيرة لتحسن العلاقات التركية – الأمريكية في سورية عقب تفجير إسطنبول الإرهابي وسقوط ضحايا مدنيين أتراك وتم اتهام قسد بانها من خطط ونفذ تلك العملية وانطلاقاً من الأراضي السورية، واجتمع الرئيس التركي مع نظيره الأمريكي مطولاً على هامش قمة العشرين في إندونيسيا بُعيد تنفيذ تلك العملية الإرهابية بأيام، ويبدو أن الفيتو الأمريكي على أي عملية برية تركية مازال موجوداً ولم يكن بوسع واشنطن إلا المساعدة بعملية المخلب – السيف التركية والتي اطلقت للانتقام من منفذي ومدبري الهجوم الأخير في الداخل التركي، وكانت المساعدة الأمريكية بالسماح للطيران التركي العادي والمسير باستهداف نقاط لقسد وبأعماق وصلت لمحافظة دير الزور واستهداف بعض البنى الاقتصادية التي تشكل عصب التمويل لتلك الميليشيات، وبعد أيام اتصل وزير الدفاع الأمريكي بنظيره التركي وقال له كفى، وفعل نفس الشيء باتصال مدير وكالة الاستخبارات الامريكية بنظيره التركي. 

وإزاء تبلور ملامح الاستراتيجية الأمريكية والغربية عموماً بإيقاع هزيمة ساحقة بروسيا بالحرب الشاملة عليها التي سيستهدف بالضرورة مواقع نفوذها خارج روسيا، ونظراً للتحول الأمريكي والغربي بصرف النظر عن التوقيع على اتفاق نووي جديد مع إيران بعد دخولها الحرب العسكرية بشكل مباشر مع روسيا، وأيضاً بدرجة أقل بسبب قمعها الوحشي للانتفاضة الشعبية ضد نظام الملالي، فإن ذيلهما في دمشق يعتبر كأحد الاذرع الواجب التضييق عليها لبترها في الوقت المناسب. 

في هذه المرحلة زادت وتيرة وحدة التصريحات التركية من مختلف المستويات حول رغبة القيادة التركية بعقد لقاء قمة في موسكو يَجمع الرئيس التركي ورأس النظام السوري للبدء بالتطبيع الجدي للعلاقات بين البلدين وتم تناقل أنباء عن رغبة موسكو بإتمام ذلك والسعي جديا لإخراج اللقاء الثلاثي بين بوتين واردوغان والاسد الى حيز الوجود.. وما سبق ذلك من تصريحات تركية رسمية حول استعداد أنقرة للتنسيق مع موسكو ودمشق بوضع خطط لمكافحة الإرهاب، وأنا أرى أن تلك التصريحات تصب في اتجاهين قد لا يكون ثالث لهما: 

    الاستمرار بتوجيه الرسائل للداخل التركي وتوصيل الجهد لتركي للناخب الذي بات مقتنعاً أن تحسين العلاقة مع النظام السوري فيه حل لمشكلة اللجوء السوري في تركيا والذي كما يعتقد الجمهور التركي أنها السبب الرئيس في الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بلاده.

    انتهاج سياسة حافة الهاوية مع الولايات المتحدة، برسالة مفادها أن السياسة التركية قد تذهب في طلاق نهائي مع السياسة الأمريكية في سورية بل وبشكل أوسع أيضاً قد تشمل المناطق الأسخن، بصياغة علاقة استراتيجية مع عدوي الولايات المتحدة روسيا وإيران وليس فقط بعدم الالتزام بالعقوبات الغربية عليهما بل ربما أكبر من ذلك، وإن تطبيع العلاقة مع الأسد هو الباب الذي ستعبر منه تلك السياسات التركية لمناكفة الجهد الأمريكي في هذه البقعة من العالم. ويدرك الأتراك أن من لا يضبط ساعته مع الساعة الأمريكية سَيخسر، وأن الروس والإيرانيين لا شيء يقدمونه لهم على صعيد محاربة قوات سورية الديمقراطية، لأن تلك القوات قرارها ورعايتها وحمايتها أمريكية، ولا تستطيع دمشق وموسكو التأثير على قرارها (كدفعها للانسحاب من مناطق معينة تراها أنقرة تهدد أمنها)، وليست بالوقت نفسه قادرة (موسكو ودمشق) على حرب تلك القوات الحليفة للغرب، والتي يُقدم لها الدعم تحت عنوان محاربة الإرهاب. 

ولن تُقدم أنقرة إنجازاتها في الملف السوري هدية مجانية لنظام الأسد وروسيا مقابل التقاط صور للتسويق الداخلي ولن تبادر بأي انسحاب من متر مربع واحد من مناطق نفوذها لتحل محلها قوات النظام، وتبدأ فصول مسرحية حوران ثانية عانى منها الأردن وغيره ولازالوا يعانون من وصول الميليشيات الإيرانية إلى الحدود. 

وتبقى كل مآلات الأحداث مرتبطة بأحداث هامة منها نتيجة الانتخابات العامة والرئاسية في تركيا، ونتيجة الحرب في أوكرانيا ومآلات الانتفاضة الإيرانية، إضافة إلى الامتصاص الأمريكي للحنق التركي بالموافقة على بيع طائرات F16 جديدة وتحديث الموجود منها، حيث أعتقد أن حاجة تركيا للناتو والاتحاد الأوربي أكبر من حاجة الأخيرين لتركيا ولن تجازف تركيا واقعياً بتلك العلاقة والسير أو المراهنة على الجواد الخاسر.


المصدر: نينار برس