باسل المعراوي
لسورية وتركيا حدود برية مشتركة تقترب من الألف كيلومتر، وتمثل هذه المسافة أطول حدود برية لسورية مع جوارها، وبالنسبة لتركيا تشكل سورية والعراق كامل حدودها الجنوبية.
تعاني أنقرة منذ ثمانينيات القرن الماضي من تمرد مسلح لحزب العمال الكردستاني التركي، صاحب الأيديولوجيا اليسارية الممزوجة بخليط غير متجانس بأيديولوجيا قومية عابرة للحدود الدولية لأربعة دول (سورية، العراق، تركيا، إيران)، تطالب بإنشاء دولة كردستان الكبرى التاريخية مع طوباوية طفولية عن الأمة الديمقراطية.
مع أن الدول الأربعة التي يشكل الأكراد جزءاً من شعبها، والتي تعارض بالمطلق ما ينادي به الحزب التركي، إلا أن نظام الأسد الأب ونظام ولاية الفقيه دعما ذلك الحزب ضد الدولة التركية منذ بدايات تشكيله واستخدماه كورقة ضغط على الحكومة التركية.
وكان لإيواء الأسد الأب زعيم الحزب عبد الله أوجلان في سورية، أثر كبير على العلاقة بين الدولتين، لدرجة احتمال نشوب حرب بين البلدين عام 1998، ما دفع الأسد الأب للتخلي عن أوجلان وإخراجه من سورية، ثم أعقب ذلك وساطة مصرية أنتجت اتفاق أضنة الذي لم يعلن البلدان الموقعان عليه عن إلغائه.
خاضت الدولة التركية (ومازالت) صراعاً عنيفاً ودامياً مع الحزب منذ أربعة عقود خلفت وراءها أربعين ألف قتيل بين مدني وعسكري تركي، جلّ الصراع كان متركزاً في الجنوب الشرقي لتركيا، عبر حرب عصابات شنّها الحزب، وكانت هذه العصابات تجد لها ملاذاً آمناً في جبال قنديل العراقية، ثم تمكنت الحكومة التركية من نقل الصراع مع الحزب إلى خارج أراضيها شمالي العراق والشمال السوري (بعد انطلاقة الثورة السورية).
أثر انكفاء الدور الروسي على المشهد السوري
تمكنت روسيا الدولة العظمى، من فرض وإدارة صراع القوى المتدخلة بالشأن السوري بمزيج من القوة والدبلوماسية وتحكمت بقواعد الاشتباك وإدارة وسائط القوة للدول المتصارعة، فأنشات علاقات متوازنة مع كل من دولتي الاحتلال الإسرائيلي والإيراني، والقوات الأمريكية والتركية الموجودة على الجغرافيا السورية، وضبطت الستاتيكو القائم.
إن الانخراط الروسي المتزايد في الحرب ضد أوكرانيا، بدأ يلقي بظلاله على المشهد السوري، وكانت العدسات تلتقط انسحاباً روسياً من كثير من أماكن انتشارها السابقة، ويطلق عليه العسكريون إعادة تموضع للقوى أكثر منه انسحاباً.
ويتفق الجميع على أن القضية السورية لم تعد تنال الاهتمام الكافي سياسياً ودبلوماسياً من القيادة الروسية، وليس لروسيا – وهي منخرطة بكل قوتها بصراع مع الناتو عبر البوابة الأوكرانية – أن تصرف أي جهد عسكري حقيقي في غير تلك الساحة.
كان الإعلان الذي صدر عن الملك الأردني بانسحاب روسي حقيقي من حدوده مع سورية هو الإعلان الرسمي الأول من دولة تمتلك من وسائل الرصد والمراقبة والتحليل والمصداقية، غير التي رصدته تقارير صحفية وإعلامية تحدث بذات الموضوع.
وكان لابد للقوى المنخرطة في الشأن السوري من استغلال تلك الفرصة وتحقيق مكاسب جيوسياسية، تقوي أوراقها وبالتالي مواقعها في الخريطة الجيوسياسية الجاري رسمها مجدداً في المنطقة كلها.
سارعت الولايات المتحدة لدعم ربيبتها قسد (التي شحنت لها آلاف الأطنان من السلاح والمعدات)، وليس هدفها محاربة خلايا تنظيم داعش التي يجري تضخيمها جداً، وقامت بإعفاء منطقة سيطرة قسد من عقوبات قانون قيصر، لتفعيل الاقتصاد وتسهيل دخول الاستثمارات وتقوية البنية الإدارية للإدارة المدنية تحت شعارات واهية، ولكن لغايات في نفس العم سام.
لم تقصر الميليشيا الإيرانية بتعبئة الفراغات التي خلفها الروس بانسحاباتهم، وتركز أكثر نشاطها في المنطقة الجنوبية عبر أدواتها، عبر نشر الفوضى والاغتيالات لكل من لم يسر بركابها، وترسيخ قواعد قوية لجمهورية الكبتاغون التي تنشط الآن لإغراق السوق الخليجي والسعودي خاصة عبر البوابة الأردنية.
في هذه الظروف أدركت تركيا أهمية الأوراق التي تمتلكها في صراع الجبارين الروسي والأمريكي وحاجة كل واحد منهما لاستمالتها إلى جانبه.
تركيا تلك القوة الإقليمية الصاعدة والمؤهلة للعب أدوار كبرى وهامة في ملفات المنطقة، والتي تعاني من احتضان أربعة ملايين سوري داخل الأراضي التركية، أخرجت من أدراجها كل اتفاقاتها مع الروس والأمريكان التي تم ضرب عرض الحائط بها، وطالبت بالتزام كلا البلدين بتعهداتهما تجاهها، وبدأت تلوح بعمليتها أو (عملياتها) العسكرية التي تزمع القيام بها، وبدأت تساوم القوتين العظميين لمنحها الضوء الأخضر، وحددت على لسان رئيسها المكان المفترض، وتركت الزمان إلى ما بعد زيارة وزيري خارجية ودفاع روسيا إليها بـ 8 حزيران الحالي وقبل قمة الناتو المرتقبة في إسبانيا في 26 الشهر الجاري.
المجال الحيوي التركي
هو المسافة التي تسيطر عليها الدول في جوارها بأدوات مختلفة، وليس ضرورياً وجودها عسكرياً به.
وحرصاً من تركيا على ارتداد الآثار السلبية للثورة السورية عبر حرب الإبادة والتهجير الممنهج الذي مارسه النظام السوري وميليشيات الحرس الثوري الإيراني قبل التدخل العسكري الروسي المباشر، طالبت منذ عام 2013 بمنطقة آمنة وفق المعايير الأممية لحماية المدنيين السوريين من القتل والتهجير وإبقائهم داخل بلدهم وتجنيب تركيا آثار اللجوء السوري الغزير، إلا أن الرفض الأمريكي الأوبامي كان بالمرصاد لأي مسعى تركي لذلك.
كانت تركيا ما تنفك تردد في كل مناسبة عن ضرورة وجود منطقة آمنة على حدودها، ولم يلتفت أحد لطلباتها، فشرعت بنفسها بتأسيس بيئة أمنية لحماية أمنها القومي من عصابات قسد القنديلية، وتحقيق نوع من الأمان النسبي للسكان المهجرين من أصقاع المقتلة السورية كافة، وشرعت بتأمين خدمات بحدود مقبولة لحماية السكان ومتابعة حياتهم.
استندت تركيا في عملياتها العسكرية الأربع السابقة على شرعية تدخلها وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وشرعية معاهدتها المبهمة مع النظام السوري (اتفاق أضنة)، والأهم من ذلك التوافق مع الروس والأمريكان (أو أحدهما على الأقل).
يرى خبراء عسكريون أن حدود 30 كم ضرورية لأمن أي دولة خارج حدودها إذا ما كانت صراعات من أي نوع تهدد أمنها القومي، وليست تلك المسافة تتعلق بمدى الأسلحة المتوسطة التي تمتلكها أي ميليشيا فحسب، بل بعدم قدرة تلك الميليشيا المعادية لها من اختراق الحزام الأمني العازل لإجراء عمليات عسكرية داخل أراضيها دون كشفها.
ويقول الخبراء إن مسافة إضافية وقدرها 15 كم خارج الحزام الأمني أو المنطقة الأمنية، يمكن من خلالها للجيش التركي مراقبة ورصد أي تحركات عسكرية مريبة واستهدافها بحيث تصبح المنطقة الأمنية المتاحة بحدود 45 كم وهي مسافة أمان كافية.
بتحقيق تلك المنطقة على كامل الشريط الحدودي يتسنى للجيش التركي تأمين حماية أراضي الدولة التركية، وقبلها حماية المنطقة نفسها بشكل يحقق للسكان السوريين الموجودين فيها أو الذين سيعودون إليها بموجب الخطة التركية المعلنة، أو من أماكن لجوء أخرى، مساحة كافية وآمنة نسبياً وعلى أرضهم، وتقام بالحراب التركية طالما أن الحراب الاممية لم ولن تقوم بذلك، بانتظار الحل السياسي المنشود الذي يتيح التخلص من النظام المجرم وبناء سورية الجديدة دولة كل المواطنين السوريين.
المصدر: نينار برس