رأي

مخيمات النزوح السُّوري وهاجس التغريبة الفلسطينية

الأحد, 23 يناير - 2022

الطريق- باسل معراوي


ضرب القدر موعداً لي بالتهجير القسري من حلب الشرقية لمخيمات الشمال السّوري.. حاولنا البقاء طويلاً، وصمد الثوار المدافعون عن المدينة ..وصب الجيش الروسي والعصابات الإيرانية والأسدية كلَّ حقدهم على المدينة.. ولأنها كانت أول نصر عسكري حقيقي للروس منذ تدخلهم العسكري قبل سنة، كان لابدَّ من الرحيل، ووصلنا بنهاية العام 2016 إلى مخيمات الشمال...

وصلنا وكان كلُّ شيء مؤقتاً. كان البعض قد سبقنا بأربع سنين، وكنا نتمنى أن يكون مهجَّرو حلب الشرقية آخر الوافدين إلى المخيمات ..لقد كانت المخيمات مشهداً غريباً غير مألوف...

لم يسبق للسوريين أن أقاموا مخيمات لإخوانهم الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين، الذين تعرضوا لمحنٍ سابقة ..تم احتضانهم في القلوب قبل أن تحتضنهم منازلنا...

مخيمات أُنشِئت على عجل بدون أسوار أو مداخل، كانت تتوسّع باستمرار، وينتفخ حجمها باستمرار العنف الذي تصبه طائرات العدوان الروسي والعصابات الإيرانية والأسدية على المدنيين، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام...

لم تكن المخيمات إلا عبارة عن خيمٍ بالية، يُضاف إليها عوازل من النايلون شتاءً تسمَّى عوازل مطرية، تقيهم مطر وبرد الشتاء وحرارة الظهيرة في الصيف..

كنا نلمس الإصرار على العودة للديار، ورفض الوضع القائم وعدم تثبيته...نلمسه بالأعين وبالكلمات وبالدعوات إلى الله.


كان تخديم المخيمات من قبل المنظمات يفوق الحد الأدنى بقليل؛ صهريج مياه يُعبَّأ دورياً لكلِّ مجموعة من الخيام...إدارةُ المخيم خيمتان أو ثلاث، مدرسةُ المخيم ثلاث أو أربع خيام، مسجدُ المخيم خيمةٌ كبيرة...

فاجأت المأساة السورية العالم أجمع، بضراوتها وعمقها الإنساني، وقيل بأنَّ العالم لم يواجه كارثة إنسانية كتلك التي واجهها بالثورة السورية.

كانت الحمَّامات جماعية؛ بحيث يتوفر اثنان من الحمامات فقط، للمخيم الذي يضم 500 عائلة!..ولا توجد طرق معبَّدة ولا يوجد صرف صحِّي...وكان طين الشتاء يمحي معالم الطرق الصيفية. 

لم يُراعَ في إنشائها الأوَّلي مناطق تجمُّع الأمطار وتشكيلها للسيول؛ فكان لا يخلو شتاء من فيضانات تغرق الخيام ..كانت كرتونة الإغاثة تقل محتوياتها بازدياد عدد الوافدين.

كانت سورية الصغرى موجودة بكلِّ ألوانها وأطيافها بالمخيم .وتجلّى التآخي السوري بأبهى صوره؛ الحلبي بجوار الشامي، بجوار الديري، وبجوارهم الكردي والإدلبي...

يمكن أن نقول إنَّ المخيم ببنيته البسيطة شكل نوعاً من أنواع المجتمع المدني؛ حيث لم تعد القبلية أو المناطقية أو العائلية موجودة، بل يختار السكان من يمثلهم في اللجان المختلفة مع الخارج (سواء منظمات إغاثية، أو إدارة تركية، أو غيرها...)

مع تعقّد الملف السوري وتضاؤل حلم العودة القريبة، كان لابدَّ للقاطنين من التكيُّف مع ظرف إقامة متوسطة، وربما طويلة...

كانوا في البداية يخشون أن تتكرَّر التجربة الفلسطينية معهم ..وكانوا يتبادلون المزاح حول مفتاح الدار الفلسطيني الذي أخذه الآباء معهم تمهيداً لعودة قريبة، وإذ بهم تقذفهم الأقدار لدول الجوار، مع تعذّر العودة...كان ما يقلق ساكن المخيم تحويل الباب أو سقف الخيم للخشب أو الصفيح؛ لأنها تنذر ببدء التخلي عن حلم العودة القريبة ..ولكن للضرورة أحكام، فبدأنا نرى أبواباً خشبية بسيطة وبناء دورات مياه لكلِّ خيمة...ثم بدأت ملامح أسواق بالتشكل، كانت خيمات بسيطة أصبحت من البلوك البسيط أو التنك.....ثم بدأت ظاهرة البازارات الأسبوعية تأخذ موعداً ثابتاً بكلِّ مخيم. وكانت المنظمات لا تتوانى عن تلبية متطلبات السكان، بشق وتعبيد بعض الطرق.. ومع مرور الأيام وتضاؤل حلم العودة السريع، بدأنا نرى المدارس المؤلفة من خيم متناثرة تتحول إلى صفوف حجرية وإدارة مدرسة وسور؛

يبدو أنَّ قراراً عميقاً من المهتمين (منظمات أو مجالس محلية أو سلطات تركية) اتخذ لتطوير البنية التحتية للمخيمات...

بدأنا نرى استبدال كرفانات معدنية بالخيام المهترئة، مع بناء مخافر للشرطة ومراكز للدفاع المدني والإسعاف السريع، وتحولت مراكز الرعاية الصحية الأولية من الخيم إلى مستوصفات بكرفانات معدنية ثابتة وأسوار...وتمَّ رصفُ كثيرٍ من المخيمات النظامية بالبلاط، وتعبيد كثيرٍ من الطرق، وإنشاء مجارير للصرف الصحي، وحفر آبار جديدة لمياه الشرب..

كان كلُّ شيء يشي بأنَّ الناس استسلمت لفكرة الإقامة المتوسطة، قياساً على تعقيدات مسار الحل السياسي وفشل كل دعوات النظام الكاذبة لعودة النازحين إلى ديارهم...

لماذا الاهتمام بتطوير البنية التحتية للمخيمات؟

يرى البعض (وأنا منهم) أنَّ تلك المخيمات الممتدة على طول الشريط الحدودي التركي، من جبال اللاذقية غرباً إلى جرابلس شرقاً، بما فيها من تجمعات سكنية عشوائية، ستبقى ولن يتم إزالتها عند حصول أي حل سياسي، حيث سيفضل البعض أن يبقى بها ولا يعود إلى موطنه؛ خوفاً من حدوث انتقامات ثأرية متوقعة...إذ إنَّ الكثير من أبناء القرى والبلدات كانوا ضمن أفرِقة متصارعة خلال الحرب في سورية، بمعنى أنَّ عائلة من حاضنة الثورة لن تسكت عن دم ابنها الذي قتله ابن إحدى العوائل أثناء انتمائه لداعش أو لفرق شبيحة النظام ..أو العكس...فربما تطوي الأيام جراحات الحرب وتبرد الجراح ولا يتحمل الأبناء وزر آبائهم...

من يعرقل بناء مدن سكنية صغيرة بدلاً عن المخيمات؟

جرى في الآونة الأخيرة بناء تجمعات سكنية منظمة من البيتون والحجر، منظّمة ومخدَّمة بشكلٍ جيّد، من قبل منظمات تتلقى تمويلاً عربياً، ولم يتم تعميم هذا النموذج، لسببين ـ بشكلٍ عام ـ كما أظن:

1-عدم توفّر رغبة حقيقية لدى القاطنين بالخيام للانتقال إلى مدن جديدة؛ لأنَّ مدنهم وقراهم على مرمى النظر منهم، خاصة أنَّ جلَّ قاطني المخيمات في الشمال السوري هم من المنطقة الوسطى والشمالية والشرقية من سورية، وأراضيهم وبيوتهم على مرمى حجر منهم، ويفضلون الإقامة المؤقتة حالياً، ريثما تسنح فرص العودة.

2-لا توجد رغبة أو إرادة عند المنظمات الدولية، ولا عند السلطات التركية، ببناء تلك المدن الدائمة؛ خشية الاتهامات بأنَّ ذلك هو تغيير للبنية الديمغرافية للمناطق خاصة مناطق عفرين ورأس العين وغيرها؛ لما لذلك من حساسيات معروفة، ولكون القرارات الدولية تحرص على عودة المهجرين إلى مناطقهم التي تمَّ تهجيرهم منها وليس سواها.