الطريق- درويش خليفة
لا تكاد أن تمر مناسبة إلا ويسجل السوريون فيها موقفاً، سواء أكان سلبياً أو إيجابياً؛ فقد أدى الحكم الصادرّ عن محكمة "كوبلينز" الألمانية، ضد ضابط الأمن السابق ورئيس قسم التحقيق في فرع أمن الدولة "أنور رسلان" إلى انقسام جديد في الشارع السوري المعارض. وكما هو الحال في معظم الأمور المتعلقة بالقضية السورية، لا اتفاق على موضوع معين مطلقاً، بما في ذلك "قانون قيصر" الأمريكي الذي تُفرض بموجبه عقوبات اقتصادية على شخصيات وكيانات تتبع النظام في دمشق.
يجد بعض السوريين الخلاف في كل شيء حالة إيجابية، وتأتي ضمن حرية الرأي والتعبير، والبعض الآخر يعتبرها حالة افتراق اجتماعي، نتيجة لممارسات النظام بحق السوريين على مدى خمسين عاماً، وتقصُدِه تحييدهم عن التداول بالشأن العام سوى في الأمور التي تديرها أجهزته الاستخباراتية والإعلامية.
وفي غضون 21 شهراً، أدلى 29 مدعياً و80 شاهداً والعديد من ضحايا التعذيب بفرع أمن الدولة (المعروف بفرع الخطيب) بشهادات أمام المحكمة، وكذلك عدد من الضابط المنشقين وشهود من جانب الدفاع. وخلال تلك الفترة تساءل سوريون معترضون على محاكمة رسلان؛ لكونه منشقاً عن النظام منذ عام 2012 (هناك رواية تنفي انشقاقه): ما الذي دفع المحاكم الأوروبية محاكمة الجنود والضباط المنشقين، وغض الطرّف عن مرتكبي الجرائم بحق السوريين، وعلى رأسهم رفعت الأسد عم رئيس النظام، ونائب رئيس الجمهورية الأسبق في عهد الأسد الأب عبد الحليم خدام؟
محاولة الإقناع بهذا النوع من القضايا تكون شاقة بعض الشيء؛ لأنّ لكل من السوريين عذاباته مع النظام وفروعه الأمنية، والموضوع شبه نسبي بين من ذاق الاعتقال ومرارة الانشقاق، وبين ما يراه البعض بمنظور المتابع، وبالتالي يبني موقفه على أسس ما تمليه عليه قناعاته، كما في حالة السياسي الذي يضع كل حدثٍ على حداه في ميزان المصالح، وينتظر أين ستميل الكفة.
لكن الخبراء القانونيين حسموا بعض الجدل حول هذا الموضوع، مشيرين إلى أنه بموجب القوانين الألمانية التي تتبنى الولاية القضائية (التي تستمد شرعيتها من الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية، ويجب أن ينفذها جميع من وقع عليها استناداً لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات عام 1969)، يمكن للسلطات هناك إثارة الملاحقة القضائية بحق مرتكبي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، حتى لو لم يكونوا على أراضيها ضمن شروط معينة، بحيث يرفع الضحايا الموجودون داخل حدودها دعاوى قضائية أمام القضاء الألماني، إضافة إلى توافر الشهادات على تلك الجنايات، مؤكدين أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم وفق القانون الدولي.
وتعود شكوك الذين وصفوها بالمحاكمات الانتقائية، إلى اعتبارات سياسية في توجهات بعض الجهات القضائية في الدول الغربية، ألا أنَّ هذا لا ينفي استخدام السويد وفرنسا وألمانيا قوانين الولاية القضائية العالمية، للتحقيق في الجرائم المرتكبة ضدّ الإنسانية والإبادة الجماعية في سوريا.
الطرف الآخر المتحمس لنتيجة المحاكمة يرى أنَّ القرار الصادر عنها تاريخي، لأنها المرة الأولى التي يُحاكم فيها أحد أفراد النظام، ويُحاسبون على ما اقترفوه بحق السوريين وبدون تدخل وتسييس من أي دولة خارجية.
وفي هذا السياق، لا يمكننا أن نلوم أحداً على رأيه، حيث أصبحت الانتقائية تهيمن على معظم السياسات التي تنتهجها الدول والكيانات والأفراد، فمن تصنفه الولايات المتحدة والمحور الغربي إرهابياً، فإنَّ روسيا والصين ومحور الشر لا تراه كذلك، وينطبق الأمر نفسه على العدالة والحقوق وعقلانية المعايير التي تتناسب طرداً ومصالح الدول على حساب الأفراد والجماعات.
في حقيقة الأمر، لا يوجد موانع لمخاوف مناهضي النظام السوري في ظل الصمت الدولي على جرائم الأسد وحلفائه، والمواقف الخجولة لإدارة تدير ظهرها لقضايا المنطقة في البيت الأبيض، ناهيك؛ عن هرولة بعض الدول لإعادة النظام إلى الحضن العربي، فالعدالة واستعادة الحقوق المسلوبة كانت إحدى الصيحات في ساحات الحرية التي نادى بها السوريون.
إذن، إنَّ الاستهتار أو المبالغة المفرطة في هذا الملف تحديداً، سيؤدي إلى حالة من الاحباط وانعدام الثقة بالمحاكم الإقليمية والدولية، الأمر الذي يأخذ الكثيرين نحو أن يسلك طريق الانتقام الفردي، مما يطيل حالة التعافي المجتمعي، والمُراوحة في المكان لعقد جديد من الزمن.
ما نريد قوله هو أن التحدي والتعبير عن الهواجس حق لكل السوريين. وفي المقابل، يحق لذوي المعتقلين الشعور بنشوة الانتصار على من تسببوا في عذابات بناتهم وأبنائهم، وهو ما يعيدني للصورة التي نشرتها السيدة "فدوى محمود" زوجة المناضل السياسي "عبد العزيز الخير" ووالدة "ماهر الخير"، وهما المعتقلان في سجون النظام منذ 9 سنوات، عندما كانت في طريقها إلى موقع المحكمة قبل يوم من صدور الحكم ضد "أنور رسلان"، تتطلع التذكير بزوجها وابنها، بعد أن فتحت المحكمة ثقباً في جدار العدالة التي ينشدها السوريون.
وبما أنَّ الأمر يبنى على مقتضاه، فإنَّ إجماع السوريين على الدعوة إلى محاسبة الذين تلطخت أيديهم بدماء أبناء الوطن، أمر محتوم ولا مفر منه، على أمل ألا يتم ذلك بطريقة انتقائية أو تبعاً للأهواء السياسية.
لذلك، أنا أزعم أنّ ضمير الوطن لن يهدأ إلا بفتح كل الملفات دون استثناء؛ حتى يُحاكم القتَلَة الحقيقيون الذين استباحوا دماء السوريين.