الطريق- درويش خليفة
مع كل اختلاف وتعارض بين موسكو وأنقرة، ترسل روسيا طائراتها وصواريخها باتجاه قطاع إدلب، وترتكب مجزرة جديدة تختلف عن سابقتها من حيث حجم الخسائر والأهداف وعدد الضحايا.
ويبدو أنَّ الأحداث الجارية في أوكرانيا، ورفض حكومة أنقرة سابقاً ضمَّ الاتحاد الروسي لـ"شبه جزيرة القرم" في آذار 2014، أدَّى لخلافات متواترة بين الجانبين، وهو ما جعل "إدلب" صندوق البريد، حيث يضع كلُّ طرفٍ رسائله هناك.
فمن ناحية، تقصف القوات الروسية المنشآت الحيوية (محطات المياه، الدواجن، المدراس، المشافي) بذريعة وجود هيئة تحرير الشام في المنطقة، وعدم إيفاء تركيا بوعودها في أستانا باستئصال الهيئة.
وفي المقابل، يعزِّز الجيش التركي تواجده في شمال غرب سوريا بين الحين والآخر بتثبيت نقاطه في المنطقة، الأمر الذي يثير غضب موسكو حليفة نظام الأسد.
بشكل واضح، الخلافات التركية الروسية، تتجاوز الحدود السورية بآلاف الأميال، وتعارضهما ليس خفياً في ليبيا وأوكرانيا، إضافة إلى أذربيجان وأرمينيا. عدا ذلك، هناك توجّس روسي من فقدان السيطرة على البحر الأسود، وفي مناسبات عدة رُصد وجود مُسيّرات تركية من نوع "بيرقدار "TB 2فوق إقليم دونباس وأجزاء من البحر الأسود.
في حقيقة الأمر، الرسائل بين الجانبين لم تتوقف عند استخدام الأدوات العسكرية فحسب، بل رافقتها تصريحات إعلامية لم تتوقف بين مسؤولي البلدين؛ فبعد استقبال الرئيس التركي نظيره الأوكراني في نيسان 2021، وتجديد أردوغان دعمه لوحدة أراضي أوكرانيا، صرَّح لوسائل الإعلام: " إنّ تعاوننا ليس بأيّ حال من الأحوال محاولة ضدَّ دولة ثالثة"، في محاولة لطمأنة بوتين.
بينما جاء الرد الروسي حينها على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف، في تصريحه لصحيفة "أرجومنتي إي فاكتي" الروسية، قائلاً: "ننصح بشدّة زملاءَنا الأتراك بتقييم الموقف بعناية، والامتناع عن تأجيج المشاعر العسكرية في كييف".
وما شهدته الساعات الأولى من العام الجديد 2022 من استهداف روسي لإدلب، يأتي في السياق الذي يبرهن أن روسيا ليست راضية عن تسليم تركيا الطائرات المُسيرّة (Drones) للجيش الأوكراني، وهو ما فسرته بالرد في الشمال السوري. والقيادة الروسية تدرك مسبقاً، خشية أنقرة من أي عملية عسكرية تسفر عن نزوح جماعي لسكان المناطق هناك نحو الشريط الحدودي مع تركيا. الأمر الذي سيُشكل أزمة إنسانية يتحمل الأتراك تبعاتها، في وقت تمر فيه البلاد بأزمة اقتصادية، وتراشق إعلامي بين زعماء الأحزاب السياسية، وكثيراً ما كان للاجئين السوريين نصيبٌ كبيرٌ فيه.
ومن هذا المنطلق، أعتقد أنَّ الحكومة التركية ستقلص نشاطها العسكري هذا العام، وتركز على الدبلوماسية والحراك السياسي الذي من شأنه أن يعيد لاقتصادها شيئاً من بريقه قبل الانتخابات الرئاسية منتصف العام القادم، لاسيما وأنَّ المعارضة التركية تحاول استثمار أي هفوة من حكومة بلادها في الآونة الأخيرة.
وهذا لا يعني أنَّ الخروقات في الشمال السوري ستتوقف، لكن المستبعد وقوع معارك، سوى في حالات تمليها الحاجة الماسة، والأمر نفسه ينطبق على الروس حلفاء بشار الأسد، إذ إنَّ اقتصادات الدول المعنية بالملف هناك، لا تحتمل مزيداً من الإنهاك في سبيل قضايا كانوا قد حققوا جزءاً كبيراً من مبتغاهم فيها.
وتماشياً مع ما تم ذكره، تشهد المنطقة تعثراً اقتصادياً واضطرابات سياسية، تتطلب تصفير المشكلات، وتجاوز الخلافات التي عصفت بالإقليم خلال السنوات العشر الماضية.
لذا؛ فإنَّ بناء جسور التواصل وتمهيد الطريق للحلول المستعصية، بات حاجة ضرورية تؤسس للحظات سياسية، وهو ما أدركته دول الإقليم باستثناء إيران. وبالرغم من بطء تقارب الرياض والقاهرة مع أنقرة، إلا أنَّ الأمور تسير نحو الأفضل، وقد تكون زيارة الرئيس التركي مقدمة لعلاقات وطيدة، خاصة بعد التقارب الأخير بين أبو ظبي وأنقرة، وإبرام حكومتي البلدين عقوداً استثمارية بقيمة 4.5 مليار دولار.
في ضوء كل ما ذُكر، يظلّ السوريون ورقة توضع على طاولة المصالح الإقليمية والدولية حين الطلب، في ظل وجود نظام لا يبالي بسيادة بلده وكرامة شعبه، ومعارضة أكبر همها تحقيق مصالح ثانوية لا تتعدى الجلوس مع دبلوماسي غربي، أو حضور لمؤتمر يلتقطون فيه صوراً لنشرها على حساباتهم الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهذا ما يضع عموم السوريين في مقارنة بينهما لم تكن موجودة في السنوات الأولى للثورة السورية.