الطريق- درويش خليفة
أظهر العقد الأخير من عمر الكيان السياسي السوري (الدولة)، هشاشة الاقتصاد الذي يعتبر أحد أركان أي دولةٍ قائمة؛ وذلك بسبب غياب الإدارة الرشيدة والهوية الاقتصادية، وغض الطرف عن الفساد المستشري والفشل في إدارة المال العام، فضلاً عن القفز على فكرة وجود نظام ضريبي عادل، الذي من شأنه تحسين ظروف المجتمع المعيشية، والإنفاق في قطاعات الخدمات الأساسية، مثل: التعليم والصحة والبنية التحتية، وتفعيل دور مؤسسات الضمان الاجتماعي، والفصل بين السلطات الثلاث؛ التشريعية والقضائية والتنفيذية، لضمان النزاهة في المساءلة والحفاظ على الحقوق، ووضع ضوابط من شأنها تنفيذ الإجراءات التي يجب اتخاذها لضمان التوزيع العادل للموارد والثروات المحلية.
بيد أنَّ التخبط في إدارة الاقتصاد السوري صار أكثر وضوحاً من ذي قبل عند نظام الأسد، ففي غضون خمسة أشهر، زاد النظام رواتب العاملين في مؤسساته وهيئاته وبنسب كبيرة مقارنة بأساس الراتب، إذ بلغت نسبة الزيادة الأولى منتصف تموز الماضي إلى 50 بالمئة، وكانت الزيادة الأخيرة 30 بالمئة، وذلك في أقل من 150 يوماً، إلا أنَّ الأزمة الاقتصادية لا تزال خانقة، حيث إنَّ هذه الإجراءات لم تؤثر بشكل إيجابي على معيشة المواطنين، بل ساهمت في ارتفاع الأسعار بشكلٍ عام، وخاصة سلع التجزئة؛ السكر والشاي والزيت والرز... رغم ندرتها في الأسواق، بالإضافة إلى الطحين والمشتقات النفطية.
وجاء تعميم مديرية الشؤون الصيدلانية بوزارة الصحة في دمشق، برفع أسعار 12758 صنفاً دوائياً بنسبة تتراوح بين الـ 30 والـ 50 بالمئة، بالتزامن مع مرسوم زيادة الرواتب.
وكما ذكر وزير المالية في حكومة النظام، كنان ياغي، "الزيادة لن تسهم في حل مشكلة التضخم"، وهو القائل أيضاً قبل فترة قصيرة؛ إنّه لا زيادة قادمة.
لكن، على ما يبدو أنَّ مشيئة بشار الأسد والتوصيات الخارجية، في الغالب الإيرانية – الروسية، جاءت معاكسة لتصريحات وزير المالية، أو قد يكون هو آخر من يعلم بمرسوم الأسد القاضي بزيادة الرواتب، ورفع الحد الأدنى لأجور العالمين في مؤسسات الدولة، وعمال المهن في القطاع الخاص والتعاوني والمشترك إلى 92 ألفاً و970 ليرة سورية (ما يعادل 26 دولاراً أمريكياً) بحسب السوق السوداء. وبالتالي؛ الزيادة الأخيرة 30 بالمئة هي فعلياً (تعادل 5 دولار أمريكي).
وهنا، لا بدَّ من بيان أنَّه عندما تتدخل الحكومة في الاقتصاد، فإنَّ هدفها يكون حل المشكلات الاقتصادية وإعادة التوازن إلى السوق، ولكن في بعض الأحيان لا تسير الأمور كما هو مخططٌ لها، ممّا قد يؤدي إلى نتائج سلبية غير آخذة بالاعتبار.
ومن بين هذه التدخلات، يتضح سبب الغرض من قوانين الحد الأدنى للأجور، والتي تُلزم أصحاب العمل بعدم استغلال العمال ذوي الدخل المحدود، حيث يفترض أن يوفر الحد الأدنى للأجور دخلاً كافياً لتحمل تكاليف المعيشة، وهو المبلغ المطلوب لتوفير ما يكفي من الطعام واللباس والمأوى، هذا في حال كان التعليم والطبابة مجانيَّين.
وعلى الرغم من أنَّ الحد الأدنى للأجور يحمي العمال من الاستغلال، إلا أنّه ـ غالباً ـ لا يواكب التضخم؛ فالفوارق كبيرة بين الذين يتقاضون الحد الأدنى من الأجور مقارنة بنظرائهم في قطاعات عمل أخرى، وقد تختلف النسبة من قطاعٍ إلى آخر، وذلك يعود للسياسات الحكومية المتبعة، ولا سيما إن كانت الدولة لا تقدم المساعدات لذوي الدخل المحدود، وهم أولئك المعيلون لأسرهم، أو الذين يساعدون أشخاصاً آخرين غير قادرين على العمل.
لذا؛ من الضروري إجراء دراساتٍ واقعية قبل اتخاذ مثل هذه القرارات، والتي من شأنها أن تسمح للحكومة بمراقبة سوق العمل، وتقديم الحماية من الاستغلال للعاملين، ولكن دون وضع حد معين للأجور، والذي بدوره سيجعل الشركات تخفّض مطالبها للعمالة ممّا يؤثر على الشركات والعاملين على حد سواء.
وبالتالي، قد يؤدي قرار الأرضية السعرية لنتائج غير محمودة عند العمال المشمولين بقانون الحد الأدنى من الأجور، وهذا بدوره يؤدي لحرمان ذوي الخبرات المقبولة من فرص العمل، واستشراء البطالة، وندرة فرص العمل.
وتماشياً مع ما سبق، وجد السوريون أنفسهم في السنوات الماضية أمام كمية كبيرة من النقود التي لا قيمة لها، وبعد أن كان الدولار الواحد يساوي 50 ليرة قبل آذار 2011، أصبح في السنوات الأخيرة، الدولار الواحد يعادل 3500 حتى 4000 ليرة سورية، وذلك لأسباب عديدة، منها طباعة عملة لا يقابلها مقدار من الذهب أو المعادن الثمينة. وثمة أسباب أخرى، مثل توقف الصادرات من البضائع السورية، والاعتماد على الاستيراد الذي أضرَّ أيضاً بالعملة، لكن الخيارات تبقى معدومة مالم يعد الاستقرار السياسي للبلاد.
ختاماً؛ لطالما كُرِّرت مقولة "السياسة إدارة شؤون الناس" لكن من المؤكد أنَّ النظام في دمشق ساهم في مأساة السوريين، لكنَّ معاناتهم لا تقتصر على الجانب المادي فقط، بل إنَّ هناك أزمات عديدة، مثل: افتقارهم لأبسط مقومات الحياة والخدمات اليومية، من انقطاع لتيار الكهرباء وندرة المياه، وتردي الوضع الأمني وانتشار الجريمة، إضافة إلى غياب العدالة الاجتماعية، وشيوع اقتصاد الميلشيات المسلحة التي تستخدم سطوتها للهيمنة على موارد البلاد وإيراداتها المادية.
وهنا نسأل أنفسنا، هل يمكننا بعد الانتقال السياسي أن نبني سوريا كنموذج مشابه لألمانيا التي سجلت نمواً سريعاً بعد الحربين العالميتين؟ أو على أقل تقدير مثل رواندا، التي تُعد ملهمة في التقدم الاقتصادي والتنمية، بعد أن عاشت تجربة الحرب طوال عقدين من الزمن؟