الطريق- إياد الجعفري
مَنْ يعرف تاريخ "قدري جميل" وتسلسل مواقفه، منذ بدء أحداث الثورة السورية عام 2011، فسوف يستشف من تصريحاته الأخيرة، في ندوة وكالة "ريا نوفوستي" الروسية، "كُفراً" بالروس، ونفاد صبرٍ من سياساتهم حيال نظام الأسد. فالرجل الذي بقي وفيّاً لمشغيله في موسكو، على مدار العقد المنصرم، طفح به الكيل، ورمى ما في جعبته من رسائل علّها تصل إلى صُناع القرار الروسي حيال سوريا.
فمن يستمع لتصريحات قدري جميل، في الندوة التي استضافتها وكالة "ريا نوفوستي" الروسية، مؤخراً، يشعر وكأنه يستمع لمعارضٍ حقيقيِّ للنظام. فالرجل وصل في توصيفه للمشهد في سوريا إلى حد المجاهرة باستحالة إصلاح النظام، والمطالبة بتغييره. فما الذي أوصل قدري جميل إلى هذه العتبة؟
الجواب ببساطة يتعلق بسلسلة خيبات من محدودية الدور الروسي في تحقيق أي تغيير نوعي في تركيبة النظام، تسمح حتى للسوريين المتحالفين مع روسيا، أن يكونوا جزءاً من هذه التركيبة.
ها هو قدري جميل، الذي قال في خريف العام 2013، إنه سيعود قريباً إلى دمشق، ما يزال يقبع في منفاه الروسي حتى اليوم. وعجز الروسي ذاته عن ضمان عودته إلى بلاده. وهو الرجل ذاته الذي أقصاه النظام بشكل مفاجئ من منصبه كنائب لرئيس الوزراء، أثناء زيارة له إلى موسكو، بذريعة تغيبه عن مقر عمله دون إذن مسبق، وقيامه باتصالات خارجية دون تنسيق مع حكومة النظام، وفق البيان الرسمي الذي صدر حينها. حتى إنَّ الرجل علم بقرار إقالته من وسائل الإعلام، ولم يُخطر به شخصياً.
وحتى بعد ازدياد وزن النفوذ الروسي في سوريا، جراء التدخل العسكري المباشر منذ خريف العام 2015، لم يتغير وضع قدري جميل، وبقي يقود منصة تُوصف بالمُعارِضة، من منفاه الروسي. ولم يشفع له رفضه على مدار سنوات، مناقشة مصير بشار الأسد، ضمن مساعي التسوية السياسية. لينقلب اليوم بصورة دراماتيكية، ويتحدث عن ضرورة تغيير النظام برمته، لأنَّ الفساد جزء من بنيته، ولأنَّ الإرادة السياسية فيه، تدير عملية الفساد.
بطبيعة الحال، فإن ما سبق لا ينفي دقّة ما قاله قدري جميل في ندوة "ريا نوفوستي"، فالأوضاع المعيشية في سوريا تتجه نحو المزيد من الكارثية، وها هو التقرير المشترك الصادر عن "الفاو" و"برنامج الأغذية العالمي"، يصنف سوريا ضمن 23 بؤرة ساخنة معرّضة لازدياد معدلات الجوع خلال الأشهر الأربعة القادمة.
كما أنَّ إشارة قدري جميل إلى أن أوضاع السوريين الخاضعين لسيطرة النظام، أسوأ من نظرائهم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، هي الأخرى دقيقة. ويمكن الاستدلال على ذلك من رصد متوسط الأجور والأسعار في مناطق النفوذ الثلاث بسوريا، لنكتشف أنَّ متوسط الأجور في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، هو الأقل. ومتوسط الأسعار، هو الأعلى.
كذلك، تحذير قدري جميل من دورة جديدة من "الأزمة"، وانفجارها، هو توصيف دقيق؛ فسوريا مرشحة لانفجار جديد، بإقرار كثيرٍ من الدراسات والأبحاث المتخصصة، وأبرزها: تلك الورقة البحثية التي نشرها معهد بروكينغز لـ ستيفن هايدمان، عام 2017، والتي تنبأ فيها بدورة عنف جديدة بسوريا، مذكراً بإحصائية مفادها أن 90% من الحروب الأهلية، خلال القرن الفائت، اندلعت في بلدان شهدت عنفاً جماعياً. ليشير في خلاصة إلى أنه في الدول التي تفاقمت فيها مظالم وإخفاقات ما قبل الحرب، فإن احتمالات تكرار العنف تكون أكبر. متوقعاً أن تنطبق تلك الشروط على سوريا، في المستقبل القريب، جراء أداء النظام وسياساته.
وفي هذا السياق، يمكن الإحالة أيضاً إلى تلك الدراسة الاستقصائية التي أصدرها قبل بضعة أشهر، مركز "السياسات وبحوث العمليات"، والتي خلص فيها إلى أن 63% من سكان دمشق، يرغبون بالهجرة، إن توفرت لهم الظروف الملائمة.
تلك الأرقام والمؤشرات، يدرك قدري جميل، تداعياتها جيداً، وهو الذي يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي. لذلك فإن إشارته إلى أن الناس يُقتلون الآن، ليس بالرصاص، وإنما بالجوع والبرد، وأن الفساد هو السبب الرئيس لتدهور الأوضاع المعيشية، وليس فقط العقوبات الغربية، كانت إشارات ورسائل مُنصفة للغاية. فالرجل الذي سبق أن أطلق تصريحات ومواقف مثيرة للجدل، وغير واقعية، من قبيل دعوته لنقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق، في أيلول/سبتمبر 2020، خرج اليوم بحلة جديدة، وتحدث من وحي "وجع" كل السوريين. فهل هذا الوجع لامسه أخيراً، جراء الخيبات المتكررة من أداء الروس؟! هذا ما استشعره كاتب هذه السطور. فحينما يتوجه قدري جميل للمستثمرين الروس ليقول لهم، حتى أنتم لن تستطيعوا العمل في سوريا، واسألوا أقرانكم الذين جربوا ذلك.. فهذا يعني أن الرجل "كفر" بسياسات موسكو المتماهية مع رغبات بشار الأسد، بصورة أوصلت السوريين إلى مراحل غير مسبوقة من الفاقة والجوع، وتعدهم بالمزيد.