الطريق- إياد الجعفري
يُنبئ تتالي الهجمات على قواعد عسكرية أمريكية في منطقة "شرق الفرات" السورية، خلال الأسبوعين الأخيرين، بأن تلك المنطقة باتت إحدى محاور الحرب منخفضة الكثافة بين إيران من جهة، وكلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة أخرى. في وقت تتلمَّس فيه قوى إقليمية ودولية، ميلاً أمريكياً أكبر للانسحاب العسكري من الشرق الأوسط، فتجده فرصة مناسبة للضغط.
ففي السنوات الأخيرة، تبادلت كل من إيران من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة ثانية، هجمات مدروسة، بغية الردع أو التهديد. وكانت تلك الهجمات على ثلاثة محاور رئيسية: العراق، وحرب الناقلات البحرية، واستهداف إسرائيل للمواقع الإيرانية في سوريا.
ومنذ خريف العام 2019، أبدى مسؤولون أمريكيون مخاوفهم من أن تمتد ساحة الهجمات المتبادلة تلك، تحديداً، بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، إلى "شرق الفرات" بسوريا، وذلك وفق تقارير لوسائل إعلام غربية. وهو ما تحقق في الأسبوعين الأخيرين.
وحتى مساء الأحد 11 تموز/يوليو، تم تسجيل 5 هجمات بقذائف هاون، أو بطائرات مسيّرة، استهدفت قاعدتين عسكريتين أمريكيتين، في حقل العُمر النفطي، وحقل كونيكو للغاز.
من حيث التوقيت، بدأت الهجمات بعد ضربة أمريكية مؤلمة، استهدفت ميليشيات مدعومة من إيران في سوريا والعراق، أدت إلى مقتل 4 من عناصر تلك الميليشيات، في 27 حزيران/يونيو الفائت. وكان أول هجوم على قاعدة حقل العُمر النفطي، في اليوم التالي للضربة الأمريكية. لكن اللافت، أن هذه ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها واشنطن مواقع لميليشيات مدعومة إيرانياً، في سوريا، تحديداً، الأمر الذي يحيل التصعيد الإيراني إلى سببٍ آخر، يرتبط بفشل الجولة السادسة من مفاوضات فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووي، بالتزامن مع وصول إبراهيم رئيسي، المتشدد، إلى سدة الرئاسة في إيران.
ففي طهران، خرجت إلى العلن خلافات المسؤولين الإيرانيين حيال كيفية التعامل مع المفاوضات بفيينا. وظهر تياران، الأول يراهن على ضرورة التصعيد لإنجاح المفاوضات، وهو تيار يقوده الرئيس الجديد، إبراهيم رئيسي، وشخصيات أخرى مقربة منه. فيما يطالب تيار آخر بضرورة التهدئة لإنجاح المفاوضات. وهكذا، يبدو التصعيد في "شرق الفرات"، مؤشراً لغلبة التيار الأول، حتى قبل تسلم الرئيس الإيراني الجديد، منصبه.
ورغم أنَّ الهجمات الخمس، التي استهدفت المواقع الأمريكية في "شرق الفرات"، لم تكن مميتة، ممَّا يعني أنها تصعيد مدروس للغاية، لا يستهدف استفزاز الإدارة الأمريكية بصورة تجبرها على الرد بقسوة، إلا أنها تُعتبر تصعيداً غير مسبوق منذ هجوم مرتزقة "فاغنر" على حقل "كونيكو" للغاز في شباط/فبراير 2018، والذي تصدت له واشنطن بصورة سريعة وصارمة، أدت إلى مقتل 200 مرتزق روسي، وفق مصادر روسية غير رسمية.
ومنذ ذلك التاريخ، ساد الهدوء على خطوط التماس الأمريكية من جهة، والروسية – الإيرانية، من جهة أخرى، في منطقة "شرق الفرات". الأمر الذي يجعل التصعيد الإيراني الأخير، رغم محدوديته، مؤشراً على خرق حالة الهدوء تلك. وممَّا يعزز البعد التصعيدي، أنَّ الهجمات في "شرق الفرات" تزامنت مع هجمات لميليشيات مدعومة إيرانياً، في العراق أيضاً، أدت في إحداها إلى إصابة جنديين أمريكيين بإصابات طفيفة، في 8 تموز/يوليو.
يتزامن التصعيد الإيراني مع تصاعد الحديث في الأوساط الإعلامية الإيرانية والروسية عن تلهف أمريكي للانسحاب العسكري من الشرق الأوسط، وذلك تعليقاً على اقتراب موعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في 11 أيلول/سبتمبر القادم، رغم تمدد طالبان السريع، الأمر الذي تقرؤُه القوى الإقليمية المنافسة للوجود الأمريكي، على أنه مؤشر هزيمة.
في الوقت نفسه، شكّل نقل قوات أمريكية من قاعدة السيلية بقطر إلى الأردن، مؤشراً آخر على استعداد واشنطن لخيار الانسحاب من العراق، حسب قراءة الإعلام الروسي، مثلاً. والذي ذهب إلى أبعد من ذلك، وتحدث عن احتمال انسحاب أمريكا، قريباً، من "شرق الفرات"، بسوريا.
ولا تبدو هذه القراءة الإعلامية منفصلة عن قراءة أصحاب القرار في موسكو، فتصريحات ألكسندر لافرنتييف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا، والذي قال مؤخراً إنَّ أمريكا يمكن أن تتخذ قراراً بسحب قواتها من سوريا، بصورة مفاجئة، تمثّل التصور الذي تُبنى على أساسه، سياسات موسكو، وعلى الأغلب، أيضاً، سياسات طهران.
ولا يعني ذلك، أنَّ هكذا انسحاب من سوريا، سيكون قريباً. فواشنطن التي تلقت أكثر من 40 هجوماً على منشآتها، في العراق، منذ بداية العام الحالي فقط، وعشرات الهجمات الأخرى، خلال العامين السابقين، لم تنسحب من هناك بعد. لكنها أظهرت مؤشرات أكبر على رغبة بالانسحاب. الأمر الذي يجعل طهران تراهن على اتباع سياسة مشابهة في "شرق الفرات"، ممَّا يُرجح أن تكون الهجمات الخمس الأخيرة، على القاعدتين الأمريكيتين في حقلي العُمر وكونيكو، مقدمة لسلسلة طويلة من الهجمات المدروسة بعناية، والتي لا تستهدف قتل جنود أمريكيين، لكنها تستهدف جعل بقائهم في المنطقة، مُكلفاً، ومُنهكاً، وبجدوى منخفضة.
ويصب رد الفعل الأمريكي الهادئ على التصعيد الإيراني الأخير بـ "شرق الفرات"، في المسار الذي تريده طهران. فواشنطن، استجلبت تعزيزات عسكرية كبيرة إلى حقلي العُمر وكونيكو، ممَّا يعني أنَّ كلفة بقائها في المنطقة، أصبحت أعلى، وهو ما يخالف الاتجاه السائد في واشنطن، والمتمثل في التخفيف من تكاليف أي انخراط عسكري هناك.
وهكذا يبدو أننا سنكون في الفترة المقبلة أمام استهدافات أخرى متكررة للقواعد العسكرية الأمريكية في "شرق الفرات". وما دامت الميليشيات المدعومة إيرانياً تنجح في تنفيذ تلك الهجمات بالصورة المأمولة، دون أن تخطئ في أهدافها فتقتل جنوداً أمريكيين، فإنه من غير المتوقع أن نشهد رداً أمريكياً قاسياً على التصعيد الإيراني. وكلما ارتفعت كلفة تأمين حياة الجنود الأمريكيين في "شرق الفرات"، أصبح جدوى البقاء الأمريكي هناك، أقل، لدى صانع القرار بواشنطن. وهي المعادلة التي تريد إيران إنجاحها.