الطريق- إياد الجعفري
في المشهد الراهن، المتمثّل في حصار "درعا البلد"، تبدو كل الجوانب مستنسخة عن تجارب سابقة، عاشتها بلدات ومدن في محافظة درعا بأشكال مختلفة، خلال السنوات الثلاث الفائتة، باستثناء تطورٍ واحدٍ غير مسبوق، يتمثّل في تماهٍ كبيرٍ بين الروس والإيرانيين، وصل إلى مستوى تهديد جنرال روسيّ، باقتحام ميلشيات إيرانية وحزب الله، لـ "درعا البلد"، وذلك لأول مرة منذ دخول اتفاق التسوية في تموز/يوليو 2018، حيز التنفيذ.
وتنص أبرز بنود ذلك الاتفاق، الذي تم بضوء أخضر أمريكي – إسرائيلي، على أن تُبعد روسيا، إيران، عن حدود كلٍ من الأردن وإسرائيل. وبموجب ذلك، لعبت روسيا دور "الضامن" ضدَّ أي تعسف من جانب نظام الأسد، أو تمددٍ من جانب الميليشيات المحسوبة على إيران. ونتج عن هذا الدور، تنافس جلي بين الإيرانيين والروس، على اجتذاب الحواضن الشعبية في المنطقة، وتجنيد أبنائها في فرق مسلحة، محسوبة على كل طرف. وغرقت المحافظة في فوضى أمنية، كان عنوانها الأبرز "الاغتيالات" التي استهدفت "الكل"، وقرأها المراقبون بوصفها تصفيات متبادلة بين الأطراف المتصارعة بالمحافظة، وفي مقدمتها تلك المحسوبة على إيران، ونظيرتها المحسوبة على روسيا.
لكن ذلك، لا ينفي حصول حوادث وتطورات أمنية وعسكرية، اصطفت فيها روسيا، ضمنياً، إلى جانب إرادة النظام، المدعوم إيرانياً، كما حدث مع التهديد باقتحام الصنمين في آذار/مارس 2020. ورغم أن معظم ما أراده النظام تحقق في حصيلة تلك الحادثة، إلا أن روسيا ظهرت حينها بدور الوسيط، عبر قائد اللواء الثامن، أحمد العودة، المحسوب على موسكو، والذي توسط وصولاً إلى اتفاقٍ أدى إلى خروج عدد من المسلحين المعارضين، إلى الشمال المحرر، مقابل تسوية أوضاع من بقي في البلدة.
أمَّا اليوم، في حصار "درعا البلد"، فقد ظهر الروسيّ بطريقة مختلفة، لم يعتدها أبناء المحافظة في السنوات الثلاث الفائتة. فهي المرة الأولى التي يلوح فيها الجانب الروسي، باستقدام الميليشيات الإيرانية إلى المدينة. وهذه السابقة، لا تتعارض فقط مع التفاهمات الخارجية التي أدت إلى ولادة اتفاق التسوية عام 2018، بل تتعارض أيضاً مع الاستراتيجية الروسية في درعا، طوال السنوات الثلاث السابقة، والتي قامت على تكتيك التمايز عن إيران، والصراع معها بهدف اكتساب الحاضنة الشعبية في المنطقة.
ويفسر معظم المراقبين ذلك بوصفه عقاباً تأديبياً لأهالي المحافظة جراء موقفهم من مسرحية الانتخابات التي انعقدت في أيار/مايو الفائت، ورفضهم المشاركة في التصويت، وقيامهم بالتظاهر ضد تلك المسرحية. وإن كانت هذه القراءة كفيلة بتفسير إصرار النظام على استكمال السيطرة على المحافظة، إلا أن التغيّر في الموقف الروسي، باتجاه التماهي مع إيران في تلك المنطقة من سوريا، يبدو أعقد من ذلك. وقد يكون مرتبطاً بمحاولة ابتزازٍ تتجاوز البعد المحلي، لتطال البعد الإقليمي، الإسرائيلي – الأردني، ممَّا يعني؛ ابتزاز شريك تفاهمات 2018، الأمريكي.
وفيما قد تنتهي أزمة "درعا البلد"، بحل تفاوضي يشبه ذاك الذي حصل مع الصنمين، عام 2020، بصورة تنقل سيطرة نظام الأسد على المحافظة إلى مستوىً أعمق، برعاية روسية، يبقى تلويح الروس بـ "البعبع الإيراني"، ضد السكان المحليين، رسالة تستهدف إسرائيل بصورة رئيسية، والأردن بدرجة أقل. والأخطر من ذلك، أن نجاح النظام في تحقيق معظم غاياته في أزمة "درعا البلد"، سيكون مقدمة لاستنساخ سيناريو آخر مشابه، في ريف درعا الغربي. وحينما يحدث ذلك، تكون موسكو قد ذهبت بعيداً في الانقلاب على تعهداتها التي قدمتها للأمريكيين عام 2018، والتي بموجبها، تخلى دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي السابق، عن جنوب سوريا للروس. فهل تصل مقدمات ما يحدث في "درعا البلد"، إلى نتائجها القصوى في "ريف درعا الغربي"؟ وحينها، كيف سيتصرف الأمريكي، وكذلك الإسرائيلي، حينما يتخلى الروسيّ عن ضمان أمن هذا الأخير؟
من الصعب الجزم بإجابات عن الأسئلة الأخيرة، لكن أزمة "درعا البلد"، الراهنة، بوصفها امتداداً لأزمات سابقة، ومقدمة لأزمات لاحقة، يفتعلها النظام بضوء أخضر روسيّ، وإمداد إيراني، كل بضعة أشهر، تستهدف في نهاية المطاف، استكمال سيطرة النظام بصورة كاملة على تلك المحافظة التي لم تخضع كثير من بقاعها حتى اليوم. وهذا الدعم الروسيّ لرغبة النظام تلك، والذي سبق أن ظهر بشكل أقل وضوحاً في المرات السابقة، يؤكد أن موسكو تتبع سياسة "القضم – دبيب النمل"، لدعم سيطرة النظام التامة على درعا بصورة تدريجية، في انقلابٍ على تعهداتها في اتفاق 2018، والذي ضمن حالة من "اللامركزية" غير المعلنة، لبُقاع من المحافظة.
ويبقى التحدّي اللاحق، في ريف درعا الغربي. فإن استمرت الاستراتيجية الروسية الراهنة، في التماهي مع الإيراني، ودعم رغبة النظام في السيطرة تماماً، على تلك المنطقة المتاخمة لحدود الجولان المحتل، فإننا سنكون أمام انقلابٍ استراتيجي، لا بد وأن تتبعه ردّات فعلٍ من الإسرائيليين، بصورة رئيسية، ناهيك عن الأمريكيين، رُعاة الاتفاق، الذي انقلب عليه الروس.
وحتى إن توقف التماهي الروسي – الإيراني، عند حدود "درعا البلد"، ولم يتعداه إلى ريف درعا الغربي، فإن التلويح الروسي بـ "البعبع الإيراني"، لن يمرّ دون تبعات. سواء على المستوى المحلي في درعا التي سيُوقن أهلها أن الروسيّ وجه آخر للإيراني، أو على المستوى الإقليمي والدولي، الذي سيقرأ رسالة الروس بوصفها دليلاً جديداً على عدم احترام موسكو لتعهداتها، واتباعها تكتيكات تستند إلى الابتزاز في سياستها الخارجية.