الطريق-إياد الجعفري
بطبيعة الحال، من الأسهل بالنسبة لمناوئي النظام والمتضررين منه، وحواضنهم التي دفعت الأثمان الباهظة منذ ثورة العام 2011، أن يقرؤوا جرأة الانتقاد غير المسبوقة لنشطاء ينتمون للحاضنة الموالية بشدة للنظام، على أنها مسرحية من إعداد وإخراج أجهزة المخابرات، بغية "تنفيس" غضب الشارع الموالي بصورة خاصة، جراء تدهور الوضع المعيشي. ذلك أن المعادلات الخفيّة عن الجمهور، والتي تحكم العلاقة بين مراكز القوى داخل الحاضنة الأمنية والعسكرية المقرّبة من النظام، وتعقيدات تلك المعادلات، تجعل من الصعب فهم ما يحدث، أو توقع ما يمكن أن يحدث، إلا بنظرة مركّبة وشاملة، لا مكان للتبسيط فيها.
فرغم أن "التنفيس" كان واحداً من أبرز استراتيجيات إدارة سيكولوجية الجمهور السوري، التي اتبعها النظام منذ نشأته عام 1970، إلا أن سقوفه لم يسبق أن نالت من "هيبة" رموز النظام، ولم يسبق أن كانت مباشرة في الحديث عن أسباب الوضع السيئ الذي يعيشه الجمهور السوري بصورة تحمّل فيها المسؤولية دون أي تجميل أو تورية، لشخص "الرئيس" وعائلته، بل وتطالب بمحرّمات في عُرف هذا "الرئيس" ومنظومته. هذه السقوف التي لم يسبق أن طالتها عمليات "التنفيس" المُعدّة مخابراتياً، موجودة لأسباب وجيهة. إذ مع تجاوزها، لا يبقى الأمر "تنفسياً"، بل يتجاوزه، ويصبح نيلاً مباشراً من "هيبة" النظام، ومن "رئيسه" وعائلته. وهو ما فعله نشطاء الساحل السوري، في الأسبوعين الأخيرين.
وفي حين أن لمى عباس، من بينهم، كانت الأعلى صوتاً، إلا أنها كانت الأقل مباشرةً. وكان في رسائلها تورية. لكنها أصابت بشكل مباشر أبرز أسباب الوضع الكارثي الذي يعيشه السوريون، وهي إتاوات حواجز الفرقة الرابعة التي تتبع لشقيق رأس النظام، وإتاوات المكتب السرّي التابع لزوجة رأس النظام، والاحتكار المرتبط بالمجلس السرّي الذي تدير به زوجة رأس النظام اقتصاد البلاد. في المقابل، كان بشار برهوم أكثر مباشرةً وأقل توريةً، في النيل من رمز النظام الحزبي – البعث-. فيما ذهب الناشط أحمد إبراهيم اسماعيل، أبعد من ذلك، حينما طرح حلولاً تمثّل محرّمات في عُرف مصالح النظام، وهي تطبيق القرار الدولي 2254، وتنفيذ مصالحة حقيقية مع باقي مكونات الشعب السوري. وهي حلول كفيلة في حال تنفيذها، فعلاً، أن تحدث حالة تفكيك للنواة العائلية الصلبة التي تقود النظام القائم على العصبية "العلوية". في حين، كان كنان وقّاف، الذي أصبح خارج البلاد وفق مصادر، الأكثر جرأة ومباشرة على الإطلاق، إذ سمّى المسميات بأسمائها، ونال من رأس النظام وشقيقه وزوجته، محمّلاً إياهم المسؤولية المباشرة لانهيار معيشة السوريين، جراء مصالحهم الضيّقة وفسادهم ونهبهم مقدّرات السوريين.
وهنا يُطرح السؤال البديهي، لمن يعرف سوريا جيداً. لماذا لم يُعتقل هؤلاء؟ على الأقل من هم داخل البلاد، كحال، النشطاء الثلاثة (باستثناء كنان وقّاف)؟ الجواب يتعلّق تحديداً بتلك المعادلات التي لا نملك ما يكفي من معلومات عنها، والتي تحكم العلاقة بين مراكز القوى داخل النظام. فمحاولة اعتقال لمى عباس، المصوَّرة، والتي عززت قناعة البعض بأن الأمر مجرد مسرحية، تكشف عن أن الناشطة تحظى بدعمٍ من مراكز قوى داخل أجهزة المخابرات وداخل الجيش. وهو ما ينطبق نسبياً وبدرجات، على باقي النشطاء الموجودين داخل البلاد.
وكي نفهم أكثر جانباً من تلك المعادلات، يمكن الإشارة إلى حديث رامي مخلوف، ابن خال الأسد المهمّش قسراً منذ ثلاث سنوات، عن انهيار غير مسبوق لليرة بحيث يصبح الكيلو منها بدولار واحد فقط. هذا الحديث الذي نقله الصحفي كنان وقّاف، سبق بأيام فقط، خروج النشطاء بحملتهم المتزامنة ضد رأس النظام وعائلته. كما أن انتماء لمى عباس، للحزب السوري القومي الاجتماعي، المدعوم بقوة من آل مخلوف، والذي كان حصان رامي الحزبي "الرابح" في العقدية الأخيرة، قبل حلّه بقرار من رأس النظام، بالتزامن مع نيل الناشط بشار برهوم، بصورة غير مسبوقة، من حزب البعث، الذي يمثّل حصان آل الأسد الحزبي لعقود، يؤكد وجود دورٍ لـ رامي مخلوف في الحراك الأخير. ويؤكد أن هناك، داخل تركيبة النظام الأمنية والعسكرية، مراكز قوى تدعم هذا الحراك أيضاً. وهي محاولة جديدة من رامي لركوب مآسي العلويين المعيشية جراء إدارة الأسد وعائلته للمشهد الاقتصادي، بغية الانتقام منهم، بعد تهميشه.
وهذه ليست المحاولة الأولى لرامي مخلوف، في استثارة الطائفة ضد رأس النظام وزوجته. لكنها الأكثر حِذقاً. ومن المرجح أن مراكز قوى داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية اشتركت بها، هذه المرة، بحيث أُخرجت بهذه الصورة التي تُعد تهديداً غير مسبوق لسلطة رأس النظام وعائلته، داخل الطائفة، التي تشكّل العمود الفقري لقوى القسر الأمنية والعسكرية التي يرتكز عليها النظام، لإدامة سطوته.
إلى أين ستؤول الأمور؟ يستحيل أن يقدّم شخص من خارج الدائرة الضيّقة المقرّبة من مراكز القوى تلك، إجابة لهذا السؤال الكبير. لكن يمكن الجزم بأن هذا هو أخطر تهديد لسلطة رأس النظام وعائلته، منذ صراع الشقيقين حافظ ورفعت، منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم.