الطريق- إياد الجعفري
كان آخر نشاط معلن لمدير مكتب الأمن الوطني، اللواء علي مملوك، حتى ساعة كتابة هذه السطور، في نهاية شهر أيار/مايو المنصرم. إذ زار مملوك موسكو، والتقى سكرتير مجلس الأمن الروسي، وذلك في إطار "المنتدى الدولي للأمن" الذي انعقد حينها في العاصمة الروسية. هذا الخبر كان دلالة على أن مملوك لم يستنفد أدواره بعد، في خدمة نظام الأسد. لكن الخبر ذاته لا يكفي لنفي السطوع المتزايد لنجم حسام لوقا، رئيس المخابرات العامة، الذي أصبح منذ سنتين، المخوّل بإدارة المحادثات السرّية، والعلنية، مع أطراف إقليمية. وهو الدور الذي كان مملوك، يمسك بزمامه.
وهكذا، يعيش مملوك سنواته، وربما أشهره الأخيرة في السلطة، قبل أن يُحال إلى التقاعد الإجباري. ليخبو نجمه ويختفي تماماً، حتى ينساه السوريون، باستثناء تسريب صور لا قيمة لها، في مواقف شخصية لا ثِقل لها. قبل أن تتكفل وفاته بدفع السوريين مجدداً إلى نبش سيرته. فـ مملوك، الذي لعب دوراً محورياً في اتخاذ القرار داخل النظام، في أحلك سنواته، خلال العقديّة الفائتة، لن يكون أكثر حظاً من علي دوبا، سلفه، الذي كان يُوصف في وقتٍ من الأوقات، بأنه الرجل الثاني في البلاد، بعد حافظ الأسد. فـ دوبا، الذي ساهم في تأسيس منظومة الرعب الأسدية، في بداياتها، وشارك في أكثر اللحظات مفصليّة في ترسيخ قوة النظام في عهد الأسد الأب، مات قعيداً على كرسي متحرك، بعد نحو سنتين من ظهور مثير للشفقة، لاسمٍ كان كفيلاً بنشر الفزع في أوساط السوريين، حين ذكره، قبل ربع قرنٍ فقط.
وفاة علي دوبا، قبل أيام، كانت مناسبة لنبش سيرة الرجل، ودوره في منظومة الرعب الأمنية التي ساهم في تأسيسها، بتوجيه من حافظ الأسد، فكانت الركيزة الأساسية لحكم هذ العائلة، لأكثر من نصف قرن. وفي معرض الأسئلة التي نُوقشت بهذه المناسبة، ربما كان السؤال الأكثر إثارةً للفضول، بالنسبة لكاتب هذه السطور: كيف تُنهي منظومة الرعب الأمنية هذه، أدوار رموزها البارزين، على شكل تقاعدٍ إرادي، أو قسري، أو بالتصفية إن عارضوا، دون أن يشكّل ذلك تهديداً لاستقرار النظام الحاكم؟
مكانةٌ داخل الطائفة العلوية، وثروة ضخمة ناجمة عن التهريب والفساد والشراكات القسرية مع رجال الأعمال، وملفات أمنية وسياسية حسّاسة، و"دولة داخل الدولة"، تدين له بالولاء.. بهذه العناصر، امتلك علي دوبا، كل المقومات التي تكفل له القدرة على تهديد حكم الأسد الأب، والابن من بعده. لكن الأسد الأب تمكن من قصقصة أجنحة علي دوبا، العتيدة، ليختفي كأن لم يكن، بعد العام 2000. دون أن تحصل أي خضّة أمنية أو عسكرية لاستقرار النظام. وما ينطبق على دوبا، وإن باختلاف في الأوزان والأدوار، انطبق على كل رموز المنظومة الأمنية في تاريخ حكم آل الأسد. وها هو ينطبق على علي مملوك الآن.
وقد كُتب وقِيل الكثير في معرض الإجابة عن السؤال أعلاه. فالأسد الأب اعتمد تكتيكاً يخلق منافسة بين قادة الصف الأول في الأجهزة الأمنية، والقطع العسكرية البارزة. وداخل الجهاز الأمني ذاته. وكانت هناك الكثير من الحوادث التي تؤكد وجود منافسة وصراع بين أجهزة المخابرات داخل النظام، وهو ما يفسر تعددها، وتداخل أدوارها. كما اعتمد الأسد الأب على تكتيك لجم قوة أي ضابط، في حال تجاوز الحد المسموح به، باستخدام ضابط آخر، منافس له. ناهيك عن أن الشائعات التي كان النظام يسمح بتداولها، حول سطوة ضابط مخابراتي ما، كانت مقصودة، لكنها لم تكن دقيقة، بدلالة الاختفاء المفاجئ لقوة أي ضابط مخابراتي، حالما يقرر رأس النظام، ذلك. وكأن هذه القوة لم تكن موجودة أساساً.
هذه السطوة المتوهمة، أغرت أسماء معدودة في تاريخ منظومة الرعب الأسدية، فكان مصيرها التصفية. فيما غلب على البقية إدراك حجومهم الحقيقية، فكانوا يقبلون بقرار إحالتهم للتقاعد، حتى لو على مضض، لقاء التغاضي عن ثرواتهم التي جمعوها عبر استغلال مناصبهم، سابقاً.
كُتب الكثير عن "الدولة العميقة"، داخل تركيبة النظام السوري، وعن أدوار أجهزة المخابرات، وضباط الجيش الكبار فيها. لكن لم تكن هناك أي دلالة تاريخية على وجود سطوة لتلك "الدولة"، منفصلة عن إرادة رأس النظام. باستثناء صراع الشقيقين، حافظ ورفعت، منتصف الثمانينيات. وباستثناء حالة رفعت تلك، وحالة ماهر الأسد، اليوم، كانت سمعةُ السطوة المهولة لأسماء بارزة، من وزن علي دوبا، أقرب إلى الوهم. إذ كانت ممسوكة بإتقان، وملجومة من المنافسين، خارج الجهاز المخابراتي الذي يقوده هذا الاسم البارز، وداخله.