رأي

الثورة السورية.. بعيداً عن التعبئة الإعلامية والتنظير السياسي

الأربعاء, 22 مارس - 2023

الطريق-إياد الجعفري


كما في كل ذكرى سنوية، تتفاقم الكتابات ذات الشحنة الآيديولوجية، حيال ثورة العام 2011 في سوريا. إذ تعبّر هذه الكتابات عن غايات تعبوية- إعلامية، تناسب كل فريق على ضفَتَي الموقف من الثورة. إلى جانب كتابات تعبّر عن شطحات تنظيرية حيال استمرارية الثورة أو موتها، نجاحها أو فشلها.. إلخ. وتخلو هذه الشطحات من أي ناظمٍ علميّ، وكأن التجربة الشخصية للكاتب فقط، كفيلة بتقديم رؤية شمولية لأخطر منعطف عاشه السوريون في تاريخهم الحديث. 

وقد يصعب مهما حاولنا، تخليص ذكرى الثورة من آثار الآيديولوجيا، التي تعكّر الرؤية السليمة، وتمنع فهم ما حدث، وما يحدث اليوم، وما قد يحدث غداً. لكن تبقى المحاولة مفيدة، لاسترداد شيء من النَظمِ العلميّ، لفهم الواقع كما هو، لا كما نريد، أو نظن. 

فظاهرة الثورة، ظاهرة تاريخية، مراجعها الواجب البحث فيها، هي التاريخ وعلم الاجتماع، وعلم السياسة. ودعنا نضع عدة سطور تحت توصيف "علم السياسة"، وليس السياسة، فالحقلان مختلفان تماماً. فحينما يتحدث البعض عن واجب "دفن" الثورة، والإقرار بـ "فشلها"، يخالف تماماً الحتميات التاريخية المسجّلة في كُتب المتخصصين حول ظاهرة الثورة في تجارب الشعوب والأمم الأخرى. وتنبع قراءته أساساً من الفهم القاصر لظاهرة الثورة على أنها حدث ينقل، بشكل آني، شعباً ما، من حالة الحكم الديكتاتوري الشمولي، إلى حالة الحكم الديمقراطي الرشيد. تاريخياً، لم يحدث ذلك في أي تجربة من تجارب الشعوب. فالانتقال يكون تدريجياً. ويمتد، في بعض الأحيان، لعقود. ويكون في معظم الحالات، مخاضاً أليماً، تملؤه الصراعات الأهلية والعنف والانهيارات الاقتصادية، والإحباطات والتسويات، وارتداد الديكتاتوريات، وثورات تالية. 

أثر الثورة، وفق علم الاجتماع، لا يكون في نقل المجتمعات من حالة سياسية إلى أخرى، بل في تسريع عملية انتقالها من حالة قِيمية إلى أخرى. فهي تخضّ القِيم الاجتماعية، وأحياناً الدينية، خضّاً، بصورة تغيّر من أفكار الناس ووقائعهم، في حياتهم العملية، دون حتى أن يشعروا بذلك. هذا الانتقال هو ما يمهّد لظروف ملائمة تجعل المجتمع جاهزاً لإنشاء حكمٍ ديمقراطي رشيد. أي أن التغيير يكون من الأسفل، لا من الأعلى. ويحصل على مراحل، تمتد في معظم الأحيان، لأكثر من جيل واحد. 

أمَّا أكثر التوصيفات الآيديولوجية إثارة للسخرية، فهي تلك التي يحمّل فيها المؤيدون للنظام والرماديون، مؤيدي الثورة مسؤولية الخراب الذي حل بسوريا. ونحن هنا، لا نريد تحديد مسؤول. لكن نريد الإشارة إلى أن اندلاع الثورات أمرٌ مفاجئ وخارج عن إرادة البشر. لأنه إن كان مخططاً له، يصبح انقلاباً أو حراكاً سياسياً منظّماً، وليس ثورة. فالثورة بوصفها حراكاً شعبياً غير منظّم، لا تُدار مسبقاً، ولا تُضبط، لذلك، نجد أنها في معظم أمثلتها التاريخية -كما حدث في ثورة عام 1642 ببريطانيا، والثورة الفرنسية الشهيرة عام 1789- يعقبها فوضى وعنف أهلي، ويظهر أن لا بوصلة تتجه إليها الأمور. 

وحتى المؤرخ الأمريكي، كرين برنتن، المناوئ بشدة للثورات، والذي كتب أحد أشهر المراجع التاريخية في توصيفها وتحديد حتمياتها –"تشريح الثورة"-، يقول في كتابه: "الثورات تكون مُحتّمة مثل العواصف الرعدية، وكثيراً ما تكون مفيدة مثل عاصفة في ريف جاف". ويضيف في موضعٍ آخر من كتابه: "لا يمكن لأذكى قادة الغوغاء قياس سلوك الجماهير على نحو تام مُسبقاً". 

لكن، رغم هذا التوصيف السوداوي لظاهرة الثورة، فإنها المخاض الذي مرت به معظم دول أوروبا في القرون –السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر- لتنتقل إلى مجتمعات بوعي جديد، وقيم جديدة، تؤسس لأنظمة حكم رشيدة، تستهدف رفاه الإنسان، وتراعي حقوقه كفرد، وتتمتع بالاستقرار على المدى البعيد. وذلك عكس الرفاه في ظل الأنظمة المستبدة، الذي يكون قصير الأمد، ويستند إلى الثروات الريعية في معظم الأحيان، ويكون على حساب الإنسان، كفرد، ومكرّساً لصالح قلّة صغيرة متفرّدة بثروات وإمكانات المجتمع الطبيعية والبشرية. 

في حالتنا السورية، وبالقياس إلى أمثلة تاريخية مشابهة، نحن في المرحلة الأولى من ذاك المخاض، المسمى "ثورة". قد يكون هذا التوصيف، مرعباً للبعض، ومبهجاً لآخرين، لكنه في نهاية المطاف، حتمية تاريخية، وفق ما تُظهر علوم الاجتماع والسياسة والتاريخ، بعيداً عن التعبئة الإعلامية والتنظير السياسي، الخاليين من أي ناظِمٍ علميّ.