رأي

"مركزي" النظام تحت قناع "الواقعية"

الثلاثاء, 31 يناير - 2023

الطريق-إياد الجعفري


تصدّر مصرف سوريا المركزي التابع للنظام المشهد الاقتصادي الرسمي، في الأيام القليلة الفائتة، وبدا وكأنه أصبح أكثر قُرباً من الواقع، أو هكذا أراد معدّو بياناته، أن يوحوا للسوريين. 

بدأ الأمر ببيانٍ قال فيه المركزي إنه سيتخذ مجموعة قرارات يُعلن عنها تباعاً، لضمان استقرار أسعار الصرف وواقعيتها، وتشجيع الإنتاج، وتسهيل توفر السلع في السوق المحلية، وانسيابية عمليات التصدير. 

ويوحي بيان المركزي هذا بجملة اعترافات؛ الأولى أن سعر الصرف غير واقعي، وهذا يدعم ما يتحدث عنه عموم السوريين في الأسواق، وما يقرّ به بعض التجار في الأحاديث الجانبية، أن السلع مسعّرة بدولار بقيمة 8000 ليرة. فيما سعر الصرف في السوق السوداء بحدود 6750 ليرة. والسعر الرسمي نحو 4500 ليرة. 

فيما الاعتراف الآخر، وهو الأهم، أن القيود التي فرضها المركزي سابقاً على عمليات الاستيراد والتصدير، انعكست سلباً على العملية الإنتاجية وعلى مجمل النشاط التجاري، مما أدى إلى ندرة في توفر كثير من السلع الأساسية في الأسواق، وإلى توقف شريحة من التجار والمُنتجين عن النشاط تماماً. 

وجاء القرار الأول للمركزي، بعد ذلك بيومين. إذ علّق إجراء إعادة بيع 50% من قطع التصدير، لصالحه، بسعر الصرف الرسمي. وهو الإجراء الذي كان "سرقةً" مقوننة من جانب المركزي للمُصدّرين في سوريا. وقد كان أحد الأسباب الرئيسية في هجرة شريحة كبيرة من الصناعيين والتجار من سوريا، بدءاً من خريف العام 2021، إلى مصر، بصورة خاصة. 

كان المركزي قد أعاد فرض ذاك القرار، في أيلول/سبتمبر عام 2021، رغم تحذيرات ممثلي التجار والصناعيين من أثره على العملية الإنتاجية والنشاط التجاري، نظراً لأنه يعني خسارة نحو 30% من قيمة البضاعة المُصدّرة، على حساب المُصدِّر، ولصالح خزينة المركزي. وقد أدت الآثار التراكمية لهذا القرار، إلى شحٍ كبير في توفر سلع أساسية بالأسواق السورية، ظهر جلياً في الربع الأخير من العام الفائت، ووصل ذروته في الشهر الأخير منه. 

هل ينعكس هذا القرار إيجاباً على حركة الإنتاج والتجارة في سوريا؟ ربما فات الأوان على ذلك، إذ إنّ الضرر الناتج عن فرض إعادة قطع التصدير منذ سنة ونصف تقريباً، انعكس بنيوياً على الاقتصاد السوري، عبر هجرة شريحة كبيرة من المُنتجين والتجار. وحتى لو افترضنا أن هناك أملاً في تشجيع بعضهم للعودة، بموجب القرار المشار إليه، يأتي القرار التالي له، ليقلل كثيراً من قيمة الأول. 

فالمركزي أبقى الإجراء الثاني الذي لطالما تسبب بإرباكات كبيرة للنشاط الاقتصادي، وكان سبباً من أسباب "تطفيش" التجار والصناعيين. وهو قرار تحديد سقف للسحب النقدي اليومي من الحسابات المصرفية. إذ رفع المركزي ذاك السقف من 5 مليون إلى 15 مليون ليرة يومياً، بدل أن يلغيه تماماً وفق نصائح المتخصصين. والمبلغ الأخير يعادل 2222 دولاراً فقط، وفق سعر الصرف الرائج بالعاصمة دمشق. أي أن تاجراً أو صناعياً، يحتاج مثلاً لشراء بضاعة، يُتاح له سحب سيولة يومية بأقل من 2300 دولار! 

والذريعة لدى المركزي في ذلك من شقين: تشجيع التعامل المصرفي والدفع الإلكتروني، والحد من السيولة المتاحة في الأسواق والتي تُستخدم للمضاربة على الليرة. لكن المركزي يتجاهل عبر هذه الذريعة أثر التضخم على قيمة الودائع البنكية بالليرة السورية. 

فإذا اعتمدنا تصريحات أحد مسؤولي المركزي، وهو مدير الأبحاث الاقتصادية والتخطيط. فإن قرار رفع الفائدة إلى 11%، خلال العام الفائت، تسبب في خفض معدل التضخم العام السنوي من 118.8% عام 2021، إلى 59.5% عام 2022.. ووفق هذه التصريحات ذاتها، فإن ذلك يعني أن أصحاب الودائع البنكية بالليرة السورية، خسروا من قيمة نقودهم، نحو 48% خلال العام 2022. ورغم هذه الخسارة الجسيمة للمودعين، يصرّ المركزي على سياسة تقييد السحب النقدي اليومي من البنوك، ويصرّ على إجراءات لإجبار التجار والصناعيين على إيداع أموالهم بالبنوك. 

والملفت، كانت تعليقات اقتصاديين متخصصين عبر الإعلام الموالي، على قرارات المركزي الأخيرة. والتي أشارت جميعها، مباشرةً، أو مداورةً، إلى عنصر الاحتكار الذي يحكم النشاط الاقتصادي في البلاد. فمع استمرار هذا العنصر، وحصر فرص الاستيراد بشريحة صغيرة متنفّذة، لا يمكن لأي قرار أن يساهم في تحسين المشهد الاقتصادي، وإنهاء حالة الانفلات في الأسعار، وندرة بعض المواد من حين لآخر. 

تلك التعليقات تقصد قراراً بعينه، صدر عن المركزي قبل أيام أيضاً، قال فيه إنه لن يسمح بتنظيم تعهد التصدير إلا لمن لديهم ملاءة مالية، بهدف الحد من فئة المصدّرين الوهميين، الذين ينظمون تعهدات التصدير بأسمائهم، في حين يمارس عملية التصدير الفعلية واستلام القطع الأجنبي أشخاص آخرون، يتهربون من تطبيق الأنظمة والقوانين. 

وهكذا تتضح طبيعة الغاية التي من أجلها صدرت جملة القرارات السابقة. فبعد أن خدم قرار إعادة 50% من قطع التصدير، الغاية في "تطفيش" الصناعيين والتجار غير "المدعومين" من البلاد. بات من المطلوب توفير ظروف أفضل، لعمل البقية، والذين سيتم "تنقيتهم"، عبر بند "الملاءة المالية"، ليبقى "قطاع الأعمال" السوري، حكراً على الحيتان الكبار.