رأي

الأسد "المُتمنّع" وسوريا "المُنهارة"

الجمعة, 9 ديسمبر - 2022

الطريق- إياد الجعفري


أثارت خلاصةٌ نقلتها وكالة "رويترز" قبل أيام، استهجان كثيرٍ من المراقبين السوريين في ضفة المعارضة. إذ نقلت الوكالة عن مصادر لها، أن رأس النظام السوري، بشار الأسد، يقاوم ضغوطاً روسية للقاء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، كي لا يعزّز هكذا لقاء من حظوظ أردوغان في الانتخابات المقبلة في حزيران/يونيو القادم. حتى إن الأسد رفض عقد اجتماع لوزيرَي الخارجية، إذ إنه لا يريد منح أردوغان "نصراً مجانياً". وبالتالي، فإن أي تقارب لن يحدث قبل الانتخابات، وفق ما نقلته "رويترز". 

هذه الخلاصة التي تفيد بامتلاك الأسد هامشاً واسعاً من استقلالية القرار، لم تكن مستساغة للكثيرين. فالنظرية الرائجة هي أن قرار الأسد رهينة في قبضة موسكو وطهران. لذلك، خرجت في الأيام القليلة الفائتة، تحليلات عديدة، من قبيل أن ما تم تمريره لوكالة "رويترز"، كان بدفعٍ روسيّ، بغاية خلط الأوراق، وتحقيق دعاية للأسد، بوصفه صاحب قراره. لكن هل تملك موسكو هذه الرفاهية في هذا التوقيت؟ ففيما تتشابك مصالح موسكو مع أنقرة في ملفات مصيرية للروس، تتعلق بأوكرانيا وخطوط بيع الغاز، تستغل أنقرة هذا التوقيت لتوسيع مناطق نفوذها في شمال سوريا، وسط تراجع نوعي للتواجد العسكري الروسي في البلاد لصالح تعزيز المجهود الحربي على الجبهة الأوكرانية. وفي حيثية العلاقة الروسية بالأسد، ربما فاتت كثيراً من المراقبين نقطةٌ بغاية الأهمية. ففيما تنهار الحياة في مناطق سيطرة النظام، جراء أزمة محروقات غير مسبوقة، ويعترف مسؤولو الحكومة بعجزهم عن شراء المحروقات لنقص القطع الأجنبي، تغيب روسيا عن إنجاد حليفها. وروسيا هي أقدر الأطراف على إنجاد الأسد في هذا التوقيت، من تداعيات هذه الأزمة على وضعه الداخلي. فما دام قرار الأسد رهينة موسكو، وما دام الكرملين يتحكم بكامل مفاصل صنع القرار في دمشق، فلماذا يغيب الدور الروسي تماماً عن معالجة واحدة من أسوأ حالات الشلل المعيشي التي وصلتها البلاد! 

وفي مقابل التحليل القائل بمصادرة روسيا للقرار "الأسدي"، نجد تحليلاً رائجاً يقول إن طهران هي الطرف الذي عرقل لقاء الأسد – أردوغان. لكن هذا التحليل يعوزه أيضاً شيء من التدقيق. فإيران ليست في وارد رفاهية أن يخسر أردوغان في الانتخابات المقبلة، وأن تأتي حكومة معارضة من حزب الشعب أو من ائتلاف مقرّب منها، لأن ذلك يعني انصياع هكذا حكومة على الأرجح، للتنسيق الكامل مع الغرب، كما كان يحدث قبل العام 2001. فـ تركيا في عهد أردوغان، كانت بوابة للتهرب الإيراني من العقوبات الغربية خلال العقدين الفائتين، نظراً لإصرار أردوغان على توسيع هامش استقلالية قرار بلاده عن الحلفاء في الغرب. وهو الهامش الذي وصل إلى مستوى خلق تقارب ثلاثي، تركي – إيراني – روسي، في الملف السوري، رغم التباينات بين الأطراف الثلاثة. لذا، بالنسبة لإيران، من الأفضل لهم بقاء أردوغان وحزبه، على البدلاء من المعارضة، الذين يرجّح أن يُحيوا مسار الانحياز التركي للقرار الغربي. لكن، حتى لو أغفلنا هذا الاحتمال، فطهران المنشغلة باحتجاجات متصاعدة يبدو أنها تكاد تتجاوز عتبة اللاعودة، ليس من صالحها إغلاق كل الأبواب الأخرى أمام حليفها الأسدي في دمشق. فأي انفتاح خليجي أو تركي عليه، يعني شرعنته، ولاحقاً، وإن على المدى البعيد نسبياً، يعني انتشاله اقتصادياً، عبر الاستثمار في مناطقه. وهو ما سيعود بالنفع على طهران، إذ سيخفف عليها من فاتورة دعمه، من جانب، وسيتيح لها الاستفادة من النشاط الاقتصادي الذي سيُبعث من الموت، في مناطق سيطرة النظام، بموجب الاستثمارات الأجنبية المأمولة، وذلك من خلال تعاقداتها واحتكاراتها والامتيازات التي حصلت عليها، في قطاعات عدة بسوريا، من جانب الأسد نفسه. أمّا الحديث عن مخاوف إيران، من تقارب تركي – أسدي، يهدد مصالحها في سوريا، فهو يشبه ما قِيل كثيراً عن مخاوف إيرانية من انفتاح خليجي – أسدي، يهدد مصالح طهران، وهو ما أثبتت التجربة المُعاشة، عدم دقته. فالأسد لا يمكن أن ينفك عن إيران. وهو لم يفعل ذلك في ظروف أفضل بكثير بالنسبة له. نقصد بذلك، فترة ما بين عامي 2006 و2011، حينما جُنّدت مساعٍ إقليمية ودولية للتطبيع معه، وكان المطلب الرئيس منه، لقاء ذلك، هو الانفكاك عن إيران. لكنه لم يفعل ذلك حينها. وهو اليوم سيكون أكثر إصراراً على تحالفه مع طهران، الذي أنقذه من احتمال خسارة الحكم بعيد ثورة العام 2011. 

في السنوات الثلاث الفائتة، كانت هناك العديد من المؤشرات، التي تؤكد أن بشار الأسد يحاول توسيع هامش مناورته واستقلالية قراره، في مواجهة الحليفين الروسي والإيراني. وقد نجح في ذلك إلى حدٍ بعيد، مستنداً إلى تناقضات الحليفين، وإلى إمساكه بالنواة الصلبة لأجهزة الأمن والجيش، رغم الاختراقات الكبيرة للحليفين، فيهما. وهو ما أقرت به دراسات وخبراء روس، سبق أن تناولوا الفشل الروسي في تحقيق إعادة هيكلة للـ "الجيش السوري"، تخفف من قبضة الأسد داخله. وباستثناء الاختراق الإيراني الكبير المتمثل بتحالف طهران مع شقيق الأسد، ماهر، الممسك بأقوى فرق الجيش، "الفرقة الرابعة"، لا يبدو أن لدى الحليفين نفوذاً يسمح لهما بحجب الأسد عن صنع القرار داخل مؤسسات القوة القسرية، التي يقوم عليها حكمه في البلاد. ولا يعني ذلك أن بشار الأسد يتمتع بقرار مستقل تماماً. فهو دون شك، مضطر لتقديم تنازلات داخلية وفي السياسة الخارجية أيضاً، لصالح حليفيه. لكن العلاقة بين الأطراف الثلاثة، علاقة شراكة، وهي شراكة تنافسية أيضاً، وليست علاقة تبعية مطلقة من جانب الأسد، كما يصوّرها البعض. وإلا لكان المشهد تغير بشكل جذري، ومنذ سنوات. 

ما سبق، يدفعنا للقول، إن الأسد تمنّع بالفعل عن لقاء أردوغان. ومن الغريب أن لا يتقبّل المراقبون ذلك. فهذا من شيم "الأسد"، ومن عناوين سياسته الخارجية. ويمكن العودة إلى فترة ما بين عامي 2005 و2008، حينما مرّ النظام بأزمة خارجية كبيرة، بعيد اغتيال رفيق الحريري، قاربت حد التعرض لغزو أمريكي، على غرار الجار العراقي. لكن الأسد الذي انسحب من لبنان، تمترس بالداخل السوري، ورفض تقديم تنازلات نوعية، وأبقى على تحالفه الوطيد مع إيران. وكان منظّروه يستخدمون دوماً، عبارات من قبيل، سياسة حافة الهاوية، والرهان على الوقت، لوصف استراتيجيات النظام السوري في السياسة الخارجية. وهو وصف دقيق تماماً. فعقلية الأسد لطالما قامت على مقاومة الضغوط الخارجية، بضغوطٍ على الداخل. دون كثير اهتمام بما يحدث لذاك "الداخل". ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف يتمنّع الأسد عن الانفتاح على تركيا، رغم المكاسب المتأتية له من ذلك، خاصة من الجانب الاقتصادي، في وقتٍ تنهار الحياة في مناطق سيطرته. ببساطة، هو غير معني كثيراً بما يصيب سكان تلك المناطق، ما داموا خاضعين للقبضة الحديدية لأجهزة أمنه. ولنا في ردة فعل نشطاء الساحل الموالين، المدفوعين من أجهزة المخابرات، حيال احتجاجات السويداء الأخيرة، أكبر أمثولة حيال طريقة تفكير النظام ومعالجته لأزماته الداخلية.  

وكما كان يفعل قبل العام 2011، يعتمد الأسد سياسة حافة الهاوية، حيال مخاطر انفجار الشارع في مناطق سيطرته، ويتمنّع عن تقديم أية تنازلات مقابل الانفتاح التركي عليه، مُراهناً على الوقت، علّ أردوغان يخرج من السلطة في مطلع الصيف الفائت، فيحقق ثأره، وهو أمر من شيمه، وفق ما أقرّ كثير ممن عرفه عن قرب، في مناسبات عدّة سابقة.