رأي

في معضلة "توحيد الجيش الوطني".. والدور التركي

الأحد, 30 أكتوبر - 2022

الطريق- إياد الجعفري


جبهات الاشتباك بين فصائل المعارضة المسلحة في شمال غربي سوريا، هادئة الآن. تطلّب الأمر هذه المرة، تدخلاً تركياً مباشراً لوقف إطلاق النار. لكن من المستبعد للغاية أن يكون هذا آخر اشتباك بين تلك الفصائل. ليس فقط بين جبهتَي "الفيلق الثالث" وهيئة "تحرير الشام". بل بين فصائل "الجيش الوطني" ذاته. ويكفي لفهم السياق العام الذي حكم علاقة فصائل هذا "الجيش" مع بعضها، أن نشير إلى تقريرٍ لمركز "كارتر" الأمريكي، نُشر في آذار/مارس الفائت، قال فيه إنه جرى الإبلاغ عن 184 اشتباكاً على الأقل بين مقاتلي "الجيش الوطني" بين آذار/مارس 2020، و10 كانون الأول/ديسمبر 2021. لا يحتسب هذا التقرير الاشتباكات التي نشبت خلال العام الجاري، وكان آخرها اشتباكات هذا الشهر. 

أما محاولات توحيد فصائل "المعارضة المسلحة"، فهي أكثر من أن تُعد. وكل بضعة أشهر يظهر للعلن "تشكيل" عسكري جديد يُولد من "اندماج" لعدد من الفصائل. آخرها كان في شباط/فبراير الفائت. وكانت هناك ثلاثة "اندماجات" في النصف الثاني من العام الفائت. وقد ساهم الأتراك في عددٍ من أبرز "الاندماجات" بين الفصائل في شمال غربي البلاد. كان أهمها تشكيل "الجيش الوطني" عام 2017. وفي خريف العام 2019، رعت تركيا "اندماجاً" آخر بين "الجيش الوطني" و"الجبهة الوطنية للتحرير"، ضمن جسم عسكري واحد تابع لوزارة الدفاع بالحكومة السورية المؤقتة. وحينما أُعلن عن ولادة "الجيش الوطني" قبل 5 سنوات، كانت من أبرز أهدافه: توحيد إدارة المعابر وجمع وارداتها في خزينة تحت تصرف جهة موحدة، وانتقال الفصائل من حالة الفصائلية إلى حالة "الجيش النظامي" على مرحلتين. تلك البنود تُذكر في كل "اندماج" يُعلن عنه في كل مرّة على مدار السنوات الخمس الفائتة. لكنها لم تجد طريقها للتنفيذ. وما حدث في معظم تلك "الاندماجات" أن الفصائل "المندمجة" كانت ترفع رايات الجسم العسكري الجديد في مقراتها وعلى حواجزها وآلياتها، لكنها تزيلها في حالة الانشقاق، كما حدث مراراً. أي، فعلياً، لم تحصل حالات اندماج حقيقية، إلا في حالات محدودة. وتذهب تقديرات إلى أن هناك 41 فصيلاً محسوباً على ما يُعرف بـ "الجيش الوطني". 

وللمفارقة فإن آخر أطروحة لتوحيد الفصائل كانت قبل الاشتباكات الأخيرة ببضعة أسابيع، وكان دافعها هو المخاوف من اختراق هيئة "تحرير الشام" لمناطق سيطرة "الجيش الوطني"، كما حدث في حزيران/يونيو الفائت، والذي انتهى بضغط تركي جعل الهيئة تنسحب. وقد تحققت تلك المخاوف، في وقتٍ قصير، ونفذت الهيئة أخطر اختراقاتها لمنطقة سيطرة "الجيش الوطني"، قبل أسابيع. 

في ضوء العرض المطوّل أعلاه، يصبح التساؤل مشروعاً، إن كانت هناك رؤية تركية جديدة، تسمح بالنجاح فيما تم الإخفاق به سابقاً، في ضوء ما نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني قبل أيام عن مشروع تركي لتوحيد فصائل "الجيش الوطني". ووفق ما نشره الموقع نقلاً عن مصدر أمني تركي رفيع، فإن أنقرة تريد استغلال الاشتباكات التي وقعت مؤخراً لإعادة تنظيم "الجيش الوطني"، الذي يعاني من الاقتتال المستمر بين فصائله. لكن، هل من أساسٍ جديد يمكن البناء عليه، لتجنب أخطاء التجارب الفاشلة السابقة؟ لا توجد إجابة. ولا تجد في تحليلات المقرّبين من الحكومة التركية، تصوراً واضحاً لكيفية تحقيق ذلك. 

وبهذا الصدد، تجد تفسيرات متضاربة لسبب تجذر الفصائلية في خندق المعارضة بصورة جعلت الفشل مصيراً لكل مساعي "الحوكمة" وإنشاء بديل مؤسساتي عن النظام، يمكن تقديمه أمام الخارج. إحدى التفسيرات المريحة، أن الفصائلية نتاج تمويل الداعمين في الخارج، الذين كانوا حريصين في مرحلة تأسيس "الجيش الحر"، على تجذير هذه السمة في مناوئي النظام. لكن، مرحلة تنوع الداعمين أفَلَت إلى حدٍ كبير، ومنذ أربع سنوات على الأقل، دون أن تنجح مساعي توحيد الفصائل، رغم ذلك. وفي سياق التفسير أيضاً، تجد رأيين متناقضين حيال الدور التركي. إذ هناك من يقول إن تركيا ليست حريصة على توحيد الفصائل أساساً، بل كانت تفضّل بعضها، الأكثر تبعيةً لها، على الأخرى التي كانت تسعى للحفاظ على حيزٍ ما من استقلالية القرار. وهذا الرأي صعد إلى السطح بقوة، خلال اشتباكات الشهر الجاري، إذ قال أصحابه إن تركيا تميل لفصائل من قبيل "الحمزات" و"العمشات"، رغم سمعتها السيئة على صعيد التهريب والتجاوزات الأمنية والحقوقية، وذلك لأن هذه الفصائل مطواعة تماماً لأنقرة، فيما تحاول فصائل "الفيلق الثالث" الاحتفاظ بحدٍ أدنى من استقلالية القرار، وتعاند صانع القرار التركي في بعض القضايا وإن كانت محدودة. هذا الرأي دعمته الأحداث الميدانية الأخيرة، حينما تحالفت فصائل "الحمزات" و"العمشات"، مع هيئة "تحرير الشام"، ضد "الفيلق الثالث"، دون تدخل تركي. وكادت الهيئة والمتحالفون معها، أن ينجزوا تقدماً ميدانياً خطيراً باتجاه المدن الرئيسية بريف حلب الشمالي، قبل أن توجّه واشنطن إنذاراً جليّاً توضح فيه أنها لا تقبل بتمدد الهيئة في الريف الحلبي، وهو ما تبعه تدخل تركي عسكري مباشر، للفصل بين المتحاربين ووقف إطلاق النار. 

لكن، على النقيض من الرأي السابق، يعتقد آخرون أنّ سياسة تركيا الحيادية بين الفصائل وعدمَ تدخلها بصرامة في حوادث الاقتتال السابقة واكتفاءَها بالتوسط لوقف العنف، غذّت حالة الفوضى بين الفصائل، ولم تنهها. وهو ما يعني أن الحل يكمن بالمزيد من التدخل العسكري التركي المباشر، وهو ما يهدد استقلالية قرار السوريين، ضمن الهوامش المحدودة المتبقية له. ومن النقطة الأخيرة، يتأتى الرأي الثالث، الذي يقول إنه لا يمكن أن يحصل توحيد فعلي للفصائل بشكل قسري من الخارج، بل يجب أن يكون ذلك بإرادة السوريين أنفسهم. لكن على أرض الواقع، فإن المستفيدين من حالة "الفصائلية" من السوريين أنفسهم، يعرقلون أي مسعى حقيقي للتوحيد، لأنه يقضي على مصالحهم في تحصيل مكاسب مادية من المعابر والحواجز والتهريب. 

العرض السابق لأبرز الآراء حول قضية "توحيد الجيش الوطني"، يستهدف توضيح مدى تعقيد هذه المسألة، وهو السبب في فشل كل محاولات التوحيد لفصائل "المعارضة" المسلحة، والتي يعود أولها إلى العام 2013. 

ماذا يعني ذلك؟ يعني أن هناك ثلاثة سيناريوهات لمصير "كانتون" المعارضة بشمالي حلب، على المدى المتوسط، أو حتى البعيد. الأول: أن يختفي هذا "الكانتون" بصورةٍ دراماتيكية، أو تدريجية مع تمدد هيئة "تحرير الشام". وهو سيناريو لا يخدم مصالح الأتراك ولا السوريين. والسيناريو الثاني: استنساخ نموذج "التسوية" مع النظام، في جنوبي البلاد. ولهذا السيناريو مقدماته، منها، تلك الزيارة الغريبة لـ أحمد العودة، قائد اللواء الثامن في درعا، إلى إسطنبول، ولقاؤه مسؤولين أتراك هناك. وهذا السيناريو، إن كان مسؤولو أنقرة يفكرون به فعلاً، فهو يحقق مصلحة تركية (حزبية) قصيرة الأفق. إذ إنه يخدم حزب العدالة والتنمية في معركته حول هذه القضية مع المعارضة في الانتخابات المرتقبة العام القادم. إذ يستطيع منظّرو الحزب أن يقولوا إنه ينجز تسوية ما مع النظام، تريح تركيا من عبء الشمال السوري، أمنياً وعسكرياً، وفي الوقت نفسِه قد تؤسس لاستقرارٍ في المنطقة، يسمح بعودة عدد أكبر من اللاجئين السوريين. لكن على المدى المتوسط والبعيد، سيفشل هذا السيناريو، كما نرى في درعا، ولن يحقّق استقراراً مستداماً. بل وستبقى المنطقة، عبئاً أمنياً وعسكرياً، على تركيا. وأكثر من ذلك، قد تتحول هذه المنطقة إلى تهديدٍ للأمن القومي التركي. كما نرى في حالة الأردن مع الجنوب السوري، الآن. 

أمّا السيناريو الثالث والأخير، فهو أن ينظر صانع القرار التركي إلى مصالح الحاضنة الشعبية المناوئة للنظام في شمالي حلب، بوصفها جزءاً من الأساس الذي تُبنى عليه عملية إعادة توحيد فصائل "الجيش الوطني"، بصورة تسمح بإقصاء وحل تلك الفصائل غير المنضبطة والتي تتسبب بالتسيب الأمني لأهداف مصلحية ضيّقة. على هكذا أساس، يمكن لصانع القرار التركي أن يتدخل بقوة لفرض توحيد تلك الفصائل، وستحظى أنقرة في الوقت نفسه، بتقبّل شعبي في المنطقة، بدلاً من الرهان على فصائل تطيع أنقرة في أهداف محدودة الأفق. هكذا سيناريو لو تحقق، فإن أنقرة ستعزز أوراقها على الأرض السورية، بصورة تسمح لها أن تكون شريكاً في تسوية نهائية للصراع في سوريا، مستقبلاً، حالما تتوافر مقومات اتفاق المتصارعين الإقليميين والدوليين، على التراب السوري. وفي الوقت نفسه، ستتحقق مصالح سكان المنطقة من السوريين، في أن تكف الفصائل غير المنضبطة يدَها عن شؤون المدنيين، لتتحمل مسؤولياتها حقاً، على الجبهات.