الطريق- إياد الجعفري
كان لافتاً، أنه وبالتزامن مع اتساع نطاق التداعيات السياسية والدبلوماسية، لقرار "أوبك+" خفض إنتاجها النفطي، تحركت كل من قطر والإمارات، نحو روسيا، فيما كان ردّ السعودية على تلويح الإدارة الأمريكية بمراجعة العلاقات معها، ندّياً. فالتعددية القطبية في النظام الدولي، باتت أوضح بكثير مما سبق. ورغم أن روسيا تتعثر عسكرياً، في أوكرانيا، إلا أن ذلك لا ينفي وزنها، ووزن قوى أخرى صاعدة، في مقدمتها الصين، على الساحة الدولية. ولا ينفي أيضاً، حجم الإرباك والتأزم الذي تسببت به الحرب الروسية في بلدان الغرب، عموماً، وفي مقدمتها، بلدان أوروبا الغربية.
ولنبدأ بالمهاترات العلنية بين الرياض وواشنطن، التي وسمت الأسبوع الفائت، واستعرض خلالها محللون وكتّاب وسياسيون أمريكيون، سيناريوهات معاقبة الدولة الخليجية التي باتت حليفةً لخصمهم "الروسي"، وفق وصفهم. فجميع الخيارات "العقابية" المطروحة، تبدو ذات أثر سلبي على الولايات المتحدة ذاتها. بدءاً بمشروع قانون "نوبيك"، الذي يهدد بمقاضاة دول "أوبك"، وفي مقدمتها السعودية، والذي يشير متخصصون إلى أن نتيجته النهائية - إن أُقرّ - ستتمثل بضررٍ كبير على صناعة النفط والغاز الأمريكية، لذلك يعارضه معهد البترول الأمريكي، بشدة، ناهيك عن أنه سيؤدي إلى رفع أسعار الوقود. فيما فكرة تعليق مبيعات الأسلحة الأمريكية للسعودية، ستنعكس –إن ذهبت إلى أقصاها- خسارةً لعميلٍ يشتري 24% من الأسلحة الأمريكية، ما يدفع السعوديين للجوء، وإن تدريجياً، إلى مصادر سلاح أخرى، في مقدمتها تلك الصينية والروسية. أمَّا اقتراح سحب القوات الأمريكية من الإمارات والسعودية، فهو يمثّل –في حال تنفيذه- مكسباً استراتيجياً لخصوم واشنطن، الصين وروسيا، الذين لن يتأخروا لملء الفراغ الأمريكي بالخليج. وهكذا، لا يبدو أن لدى واشنطن خيارات كثيرة لمعاقبة حليفتها التاريخية في المنطقة. لذا من المرجح أن تتم لملمة الخلافات العلنية بين الطرفين، بعد موسم الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي، في الشهر القادم. وهو الموسم الذي رفضت السعودية مراعاة حساسيته بالنسبة لإدارة جو بايدن، ولم تستجب للضغوط بتأجيل خفض إنتاج النفط، لشهر واحد فقط. هذا الاستعراض أعلاه، يوضح إلى أي حدٍّ، تراجعت فاعلية الهيمنة الأمريكية على الحلفاء السابقين.
وبعد أيام من قرار "أوبك+"، الذي أثار استياءً علنياً في واشنطن، دفعها لاتهام الرياض بـ "الانحياز" إلى جانب موسكو، زار رئيس الإمارات، محمد بن زايد، العاصمة الروسية، والتقى فلاديمير بوتين، في قمةٍ تميزت بلغة جسد، عكست التقارب الكبير بين الرجلين، وفق وصف مراقبين.
وبعد ذلك بأيام، عقد أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، لقاءً مع الرئيس الروسي، على هامش مؤتمر الدول الآسيوية في كازاخستان، لتخفيف التوتر الذي طرأ على علاقات البلدين، إثر إدانة الدوحة ضم روسيا لأجزاء من أوكرانيا. ورغم التقارب الكبير بين قطر والولايات المتحدة، منذ وصول الإدارة الأمريكية الجديدة إلى سدة الحكم قبل نحو سنتين، وصولاً إلى تصنيفها كحليف رئيسي لواشنطن خارج الناتو، كانت الدوحة حريصة على عدم توتير علاقتها بموسكو. وهو ما يؤكده التحرك القطري الأخير.
بطبيعة الحال، سياسة الوقوف على مسافة من القوى الكبرى، ونسج علاقات توازنية معها، ليست استراتيجية مُستجَدَة خاصة بدول الخليج وحدها. فمعظم دول العالم اليوم، تتبع الاستراتيجية ذاتها. فالغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يتراجع، وقوى أخرى في الشرق تصعد. هذه هي المعادلة التي تحكم المشهد الدولي منذ نحو عشر سنوات، والتي تتعزز سنة تلو الأخرى. لكن ذلك لا يعني انهياراً قريباً لقوة الغرب، بل تعني أن قوته لم تعد "مُطلقة"، كما كان سائداً في نحو عقدين، بعد نهاية الحرب الباردة. كما أن التحالفات لم تعد صلبة، كما كانت عليه الحال، خلال الحرب الباردة. هذه سمة العلاقات الدولية في ظل التعددية القطبية.
لكن، ما الذي يهمّ السوريين من العرض أعلاه؟ ثلاثة أمور يجب على ساستهم وفاعِلِيهم إدراكها: أولها- يجب التخلص من الفكرة البالية المتعلقة بقدرة أمريكا على فعل ما تريد، وقتما تريد، وكيفما تريد، دون أن يعني ذلك الظن بأن الولايات المتحدة خرجت من قائمة القوى الكبرى. ثانيها- من يضع بيضه في سلة واحدة يخسر، على الأرجح-. والأمر الثالث- هذا هو أفضل وقت لخلق هامش من الاستقلالية عن إرادة الداعم الخارجي، لكن ذلك يتطلب في الوقت نفسه، ترسيخ القوة على الأرض، وتربيط الصلات مع أكثر من قوة إقليمية ودولية فاعلة بالشأن السوري.