الطريق- إياد الجعفري
يشبه التهديد الذي يطال النفوذ الإيراني في العراق، اليوم، ذاك الذي طال النفوذ السوري في لبنان عشية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، عام 2005. لذلك، لا يبدو تلميح مقتدى الصدر إلى احتمال تعرضه للاغتيال تهويلاً. فالنفوذ الإيراني يتعرّض لأكبر تهديد له في الساحة العراقية، تلك التي عملت طهران بجهدٍ دؤوب للسيطرة عليها، وترسيخ تلك السيطرة، على مدار عقدين من الزمن. وهي الساحة ذاتها التي تشكل بيضة القبان في ساحات النفوذ الإيرانية المتصلة جغرافياً، التي تبدأ بغرب أفغانستان، حيث تعيش أغلبية شيعية، مروراً بسوريا، وانتهاءً بلبنان على سواحل المتوسط. فخسارة العراق يعني نكسة نوعية كبرى للنفوذ الإيراني في المنطقة.
بطبيعة الحال، من المبكر الذهاب بمقدمات ما يحدث اليوم، وصولاً إلى هكذا خاتمة؛ فـالصدر ليس رفيق الحريري، وهو لا يحظى بسندٍ إقليمي عربي مستقر، نظراً لخلفيته المذهبية، رغم محاولاته الانفتاح على السعودية والإمارات، ومحاولات هذين البلدين تدعيمَ الصلة به منذ خمس سنوات. إلى جانب ذلك، فإن تحالفه السابق والوثيق مع إيران، والمعروف عن تقلباته الكثيرة في تجربته السياسية الممتدة على مدار عقدين، تدفع قوى إقليمية للتريث في الرهان عليه. في الوقت نفسه، فإن إيران ستقاتل بشراسة غير مسبوقة، للدفاع عن نفوذها في العراق، ربما أكثر بكثير مما قاتلت من أجل إبقاء نظام الأسد في سوريا. ويظهر ذلك جلياً في ردود الفعل الأولية التي أبدتها، حيال دعم الإمارات المتصاعد للصدر، قبل نحو عام، وصولاً إلى إقناع قوى سنية عراقية بالتحالف معه. إيران ردت على ذاك الدعم في شباط/فبراير الفائت، حينما أطلق فصيل شيعي غير معروف، من جنوب العراق، طائرات مسيّرة استهدفت العاصمة الإماراتية، أبوظبي. كان ذلك بالتزامن مع هجمات أخرى تبنتها ميليشيا الحوثي في اليمن. ومنذ ذلك الحين، تذبذب الدعم الإماراتي للصدر، وتراجع الدور الذي حاولت أبوظبي لعبه في الساحة العراقية. بل وذهبت الإمارات إلى أبعد من ذلك، وأخذت تتقرب من طهران، لتهدئة التوتر بين البلدين. في الشهر التالي، أطلقت إيران صواريخ على أربيل، عاصمة "كردستان العراق"، في محاولة حاسمة لإيصال رسالة للقوى الكردية المتحالفة مع الصدر. كذلك، أخذت قوى شيعية مقرّبة من طهران، تعمل على استمالة شخصيات وقوى سُنية، لإجهاض التحالف السُني – الصدري، وهو ما انعكس على مواقف محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان السُني، الذي سبق أن تحالف مع الصدريين، قبل أن يزور طهران، ليضمن عدم تورطه في الصراع المفتوح المتصاعد بين الصدر والعاصمة الإيرانية.
الضغوط الإيرانية، وباستخدام حلفاء طهران من العراقيين الشيعة في "الإطار التنسيقي"، وصلت إلى أقصاها، من خلال نفوذها داخل المحكمة العليا، التي أجهضت جهود التيار الصدري وحلفائه، في تشكيل حكومة، رغم امتلاكهم أغلبية برلمانية نسبية. ما أدى إلى يأس الصدر من القدرة على التغيير لصالحه، عبر القنوات السياسية العراقية، فدعا نوابه للاستقالة من البرلمان، ومن ثم اقتحم أنصاره مبناه منذ تموز/يوليو، قبل أن يعلن أخيراً، اعتزاله، ويشعل غضب أنصاره الذين اقتحموا القصر الجمهوري في المنطقة الخضراء. وهكذا يلوّح الصدر بأقوى أوراقه، قاعدته الشعبية، وتميزه عن باقي القوى الشيعية، بوصفه ليس حليفاً لإيران –الآن- وليس متورطاً في قضايا فساد كبيرة. وهكذا يذهب الصدر إلى أقصى حدود المواجهة مع طهران، مستغلاً النقمة الشعبية المتفاقمة في الشارع العراقي، الشيعي بالتحديد، من إيران وحلفائها، الذين نالوا بفسادهم غير المسبوق، من اقتصاد العراق، كما لم تنل منه نخبة حاكمة سابقة. وفيما تتفاعل التطورات في العاصمة بغداد، يخشى مراقبون من انفجار الجنوب العراقي ذي الأغلبية الشيعية، والذي يعيش في ندرة من خدمات الكهرباء والماء، في بلدٍ غني بالنفط.
في عام 2005، وصل نفوذ النظام السوري في لبنان إلى منعطف تاريخي، مع قراره باغتيال الحريري. فكان أن خرج "الجيش السوري" من الأراضي اللبنانية بعد ذلك بأشهر. قد لا تذهب التطورات في العراق إلى هكذا منعطف اليوم. فإيران قد تنجح مجدداً في استمالة الصدر، الذي كانت هي من عمّدته كزعيم شعبي، حينما دعمته في انتفاضاته المسلحة ضد الوجود الأمريكي بعد العام 2005. كذلك، قد يجد الصدر أن تسوية سياسية ما مع الإيرانيين أفضل من القفز في المجهول الذي يفتح الباب على مصراعيه لاحتمالات الاقتتال الشيعي – الشيعي في العراق. لكن في المقابل، قد يقرر الصدر أن هذه هي اللحظة الأفضل للتخلص من النفوذ الإيراني، ومن أدواته العراقية، ليُتوج زعيماً أوحداً للعراق، لا يُشق له غبار. وفي حال ارتأى الصدر ذلك، فإن إيران ستخوض غمار حرب دامية في العراق، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ماذا يعني هكذا سيناريو بالنسبة لسوريا؟ يعني تغيراً نوعياً في موازين القوى، يفتح الباب أمام سيناريوهات لم تكن متاحة سابقاً. أحدها، أن يتعرض نفوذ نظام الأسد للتهديد مجدداً من مناوئيه بدعم قوى إقليمية. وأحدها أيضاً، أن يتعزز ذاك النفوذ بتنازلات ما، قد يقدّمها بشار الأسد لأطراف إقليمية وغربية، يقدم نفسه من خلالها، بوصفه قد تخلص من "اللوثة" الإيرانية، التي ما تزال تعيق إعادة تأهيله بين الأنظمة الحاكمة في المنطقة.