الطريق- إياد الجعفري
أُسيل الكثير من الحِبر، منذ حدوث ما بات يُوصف لدى البعض بـ "الانعطافة" في السياسة الخارجية التركية تجاه النظام السوري، وذلك على مدار الأسبوعين الماضيين. وكان أفضل ما يمكن أن تقرأه بهذا الصدد –من وجهة نظر كاتب هذه السطور- هو مقال تحليلي للبرفسور التركي في العلاقات الدولية، "سرهات إركمان"، نشره موقع "Fikir Turu"، وترجمه موقع "تلفزيون سوريا"، تحت عنوان "هل اقتربت المصالحة بين أنقرة والنظام السوري؟".
ذلك أن البرفسور التركي طرح الأسئلة الصحيحة حول هذه القضية: على ماذا يمكن أن تتفق كل من أنقرة والنظام السوري؟ وهل يريد النظام عودة السوريين؟ وهل يريد النظام حقاً استعادة المناطق الخاضعة للسيطرة التركية؟ ومتى وكيف يمكن أن تتحسن العلاقات بين الطرفين؟
على ماذا يمكن أن تتفق أنقرة والنظام السوري؟ يجيب البروفسور التركي، بالإشارة إلى معضلة "الدويلة الكردية"، القائمة في "شرق الفرات"، والتي تشكل أرقاً للطرفين معاً. فتركيا تراها تهديداً لأمنها القومي، نظراً لنفوذ حزب العمال الكردستاني داخل أروقة قيادتها، وعلاقتها الشائكة مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تخشى أنقرة من نواياها التقسيمية لسوريا، وانعكاسات ذلك على الداخل التركي. فيما يعاني النظام ضائقة اقتصادية غير مسبوقة، في الوقت الذي يعجز فيه عن الوصول إلى الثروة النفطية الضخمة التي تتحكم بها "الإدارة الذاتية الكردية".
لكن كيف يمكن للطرفين أن يتعاونا هناك؟ ببساطة، كل عملية عسكرية تركية، أو تلويح بعملية عسكرية تركية، تدفع "الأكراد" للالتصاق بالنظام وروسيا وإيران، مما يخدم فعلياً الطرفين. لكن بالمقابل يبقى أثر هذه الاستراتيجية التي استُخدمت فعلياً على مدار السنوات الثلاث الأخيرة محدوداً، في إنهاء خطر "استقلالية" الكُرد في شمال شرق البلاد، نتيجة الدعم الأمريكي. وهنا، يظهر أن آثار التعاون بين الطرفين في هذا الملف ليست حاسمة.
وهنا، ننتقل لجانب آخر أكثر إشكالية؛ هل تتفق أنقرة مع النظام حيال قضية عودة اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، والذين يتجاوز تعدادهم الـ 3.5 مليون نسمة؟
وفق تصريحات مسؤولي النظام، نعم.
لكن الوقائع والأفعال على الأرض تشير إلى عكس ذلك. وما ينطبق على اللاجئين في تركيا، ينطبق أيضاً على "المناطق المحررة"، التي يقطنها نحو 4 ملايين نسمة. أي 7.5 مليون سوري، تفترض "تسوية" تركية – أسدية، أنهم سيصبحون من مسؤولية نظام الأسد، بكل ما يحمله ذلك من أعباء اقتصادية هائلة، وبكل ما يشكله ذلك من تحديات أمنية، نظراً لأن هؤلاء من الشرائح الأكثر مناوأة لنظام الأسد، وقد عاشوا نحو عقدٍ من الزمن، في أجواء أتاحت لهم التعود على المجاهرة بهذه المناوأة. بل إن جيلاً جديداً، من مناوئي النظام، قد نشأ في تركيا والمناطق المحررة، ستشكل إعادة "تدجينه" عبئاً أمنياً، لا يملك النظام رفاهية المخاطرة بتحمله. وقد يكون نموذج الجنوب السوري، الذي عجز النظام عن إخضاعه تماماً، منذ 4 سنوات، أبرز مؤشر على ما يمكن أن يحدث في مناطق مثل إدلب وشمال حلب، لو عادت للسيطرة "الأسدية".
وبالعودة إلى العبء الاقتصادي لعودة لاجئين، أو استعادة مناطق "محررة"، فمن المعلوم أن التدهور الاقتصادي في مناطق سيطرة النظام تفاقم بعد استعادة الأخير السيطرة على أرياف دمشق وحمص وحماة والجنوب السوري، منذ العام 2018. وقد أقرّ مسؤولو النظام أنفسهم، بأن الأعباء الاقتصادية لتحمل المسؤولية عن تلك المناطق وسكانها فاقمت الانهيار الاقتصادي الذي تسببت به حرب الأسد على السوريين، في السنوات التي سبقت ذلك التاريخ. فماذا سيحدث الآن لو عاد إلى سوريا، ملايين اللاجئين، أو استعاد النظام السيطرة على مناطق، فيها ملايين السوريين؟ يمكن تصور النتائج الاقتصادية الكارثية لذلك. وفي هذا السياق، يبدو من الصادم الرهان على تمويل خليجي – أممي، لإعادة اللاجئين وإعمار ممتلكاتهم المدمرة، وفق ما قالت صحيفة تركية إنه طرح قدمته أنقرة. فلا الخليج مستعد لتقديم مليارات الدولارات، مجاناً، ولا نظام الأسد وإيران، مستعدون لتقديم تنازلات سياسية لقاء تلك المليارات إن طُلب مقابل سياسي لها. وما ينطبق على دول الخليج، ينطبق على دول الغرب.
لذلك، فإن أبرز معضلة قد تراهن أنقرة على حلها، من خلال التقارب مع الأسد، وهي التخفيف من أزمة اللاجئين لديها، وبالتالي التخفيف من تبعاتها السياسية الداخلية، قبل انتخابات حزيران/يونيو القادم، لا تبدو متاحة للحل، على مدى الأشهر العشرة القادمة. وهكذا، فإن فأنقرة لن تجد في العاصمة السورية، حلولاً نوعية لـ "هاجسها الكردي"، أو لمعضلة اللاجئين لديها.
لكن، بطبيعة الحال، لا ينفي ذلك أن قبول تركيا بالأمر الواقع، وهو استمرارية النظام وانتفاء إمكانية سقوطه، وذلك منذ العام 2018 على الأقل، والتواصل الأمني معه، كنتيجة لذلك، قد تحول الآن إلى سلوك علني، قد يعني شرعنة العلاقات الدبلوماسية رفيعة المستوى بين الطرفين، في الفترة القادمة، في محاولة من جانب أنقرة بالذات، لاستشكاف ما يمكن أن تتحصل عليه من مكاسب لقاء ذلك. دون أن ينعكس الأمر، تغيراً نوعياً في المعادلات التي يعمل الطرفان بموجبها. فلا أنقرة ستخسر ثقلها ووجودها المباشر في شمال سوريا دون مقابل، ولا النظام مستعد، أو قادر، على تقديم ما تصبو إليه تركيا.