رأي

سوريا الواقعة في "فخ الصراع"

الأربعاء, 11 مايو - 2022

الطريق- إياد الجعفري


كثّفت جملة أحداث وقضايا شغلت السوريين في الأيام الأخيرة من رمضان، وخلال عيد الفطر، مؤشراتٍ تفيد بأن البلاد واقعة بالفعل، فيما يُعرف بـ "فخ الصراع"، وهو مفهوم متداول في أدبيات "دراسات الحرب" التي تتناول النزاعات الأهلية أو "الحروب الأهلية". ويتعلق هذا المفهوم بـ "الحروب الأهلية" التي تتكرر، في البلدِ ذاتِه.

نعلم، بطبيعة الحال، أنَّ توصيف "الحرب الأهلية" شائك، ويثير حساسية معظم المعنيين بالشأن السوري، من الطرفين، المعارض والموالي. لكن، لا يخفى على أي باحث محايد، أنَّ الصراع الذي شهدته البلاد منذ العام 2011، يحمل سمات "الحرب الأهلية"، كما يحمل سمات صراعات أخرى، في الوقت نفسه. فهو أيضاً، "حرب أهلية مدوَّلة"، و"حرب بالوكالة"، و"صراع إقليمي ودولي".. إلخ. وقد حمل الصراع في سوريا – للأسف ــ في جوانب منه، سمات التطهير العِرقي أو الإثني (المذهبي). كما حمل، في بداياته، سمات الحراك الثوري (الثورة)، دون شك.  

وهنا نوضح أنَّ توصيف "الحرب الأهلية" للصراع في سوريا، ضمن توصيفات أخرى تنطبق على جوانب منه أيضاً، لا ينفي أنه بدأ بحراك جماهيري ثائر، يطالب بالحرية والكرامة؛ فكثير من الحروب والنزاعات الأهلية في التاريخ بدأت البداية ذاتها، ومن ثَمَّ انقسم المجتمع المحلي حيال مطالب الثائرين، وتطورت الأمور إلى صراع "أهلي" مسلّح. 

وهنا نوضح أيضاً أنَّ الإقرار "العلمي" بتوصيفات "دراسات الحرب" ومن بينها توصيف "الحرب الأهلية"، يتيح الاستفادة من الدراسات التي تناولت أمثلة مشابهة من جوانب ما، مع الحالة السورية، للتنبؤ بالمسارات المستقبلية المحتملة لتطور المشهد في بلادنا.

وبعد هذه المقدمة الطويلة، التي كانت ضرورية لتوضيح أننا لا ننفي سمة "الثورة" عمَّا حدث في السنوات الأولى بعد العام 2011، نعود بقارئ هذه السطور إلى جملة الأحداث والقضايا التي شغلت السوريين في رمضان، وبالذات في أواخره، وخلال عيد الفطر. بدايةً من الجدل على ضفتي المؤيدين والمناوئين للنظام، حول مسلسل "كسر عضم"، مروراً بأصداء فيديو "مجزرة حي التضامن"، تلك التي أيقظت مشاعر "المظلومية" الطائفية، انتهاءً بالفوضى ومشاهد القهر تحت "جسر الرئيس" بدمشق، لأهالي المعتقلين.

تلك الأحداث والقضايا، كانت كفيلة بتكثيف جملة مؤشرات، تفيد بأن البلاد مؤهلة بقوة للوقوع في "حرب أهلية" جديدة. سواء بدأت بحراك ثوري، لأسباب مطلبية، أو سياسية، أو بدأت أي بداية أخرى. الفكرة الأساسية هنا، أنَّ معظم عوامل "الحروب الأهلية المكررة"، متوافرة في المشهد السوري، وبقوة.

في دراسة نشرتها مجلة "حل النزاعات" –التي تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية- عام 2015، ناقشت أستاذة العلوم السياسية، في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، باربرا ف. والتر، أبرز العوامل التي تؤدي إلى تكرار "الحروب الأهلية". وتحت عنوان "لماذا يفضي الحكم السيء إلى تجدد الحرب الأهلية"، تناولت الباحثة أبرز المؤشرات التي تجعل بلداً ما، مؤهلاً للوقوع في "فخ الصراع" المحلي.

ومن أبرز النظريات التي تقدم تفسيرات لظاهرة "فخ الصراع"، نظرية المظالم. فحينما تكون هناك مظالم عميقة خاصة بجماعات محددة داخل المجتمع، فإن تلك المظالم تكون عاملاً مؤهلاً لتكرار الصراع الأهلي والذي قد يتخذ شكل "الحرب الأهلية"، بمعنى أنه قد يصبح مسلحاً. في سوريا، انقسم المجتمع بعيد الثورة عام 2011، إلى جانبٍ يقاتل لصالح النظام، وآخر يقاتل ضده. وقد ساهم النظام، الذي يُحكم سيطرته على "مؤسسات الدولة"، في دفع الحراك الثوري في بدايته، إلى زاوية العنف. وعند هذه النقطة، يتفق المتخصصون في دراسات "النزاعات"، أنه حالما يندلع العنف، تُجبَر الهويات الإثنية (والطائفية بطبيعة الحال)، على أن تتصرف بطريقة تجعل من الصعب التعاون بين الجماعات المتنوعة المكونة للمجتمع الأهلي. هذه الوصفة، التي تسبب نظام الأسد في تحققها بعيد ثورة العام 2011، تشكل أساساً لتكرار النمط ذاته، مستقبلاً. وهو ما أكدته مؤخراً، أصداء فيديو "مجزرة حي التضامن"، في أوساط السوريين. إذ أيقظ ذاك التسجيل، مشاعر "المظلومية" الطائفية، لدى جانب من السوريين، في الوقت ذاته، الذي حرّض فيه الجانب الآخر على التمترس والدفاع عن نفسه، عبر التذكير بما يصفها بـ "مجازر" وقعت بحقه، هو الآخر. وهكذا، فإن وصفة التناحر "الطائفي"، جاهزة للاشتعال في سوريا، بالمستقبل. 

ومن النظريات الأخرى التي تناقش احتمالات تكرر "الحروب الأهلية" في البلدِ نفسِه، تلك التي تتعلق بـ "الفرص". ويوضح المتخصصون أنه كلما ازداد الفقر مثلاً، ازدادت قدرة الأطراف المتصارعة على تجنيد المقاتلين، مما يجعل فرص اندلاع "الصراع" مجدداً، واردة بشدة. وهنا، يكفي أن نذكّر بأن سوريا تحولت إلى مصدر للـ "المرتزقة" في ليبيا وأذربيجان وفنزويلا، ومؤخراً، في أوكرانيا أيضاً. دون أن ننسى معياراً آخر، في السياق نفسه، وهو معيار ربحية العنف، الذي لعب نظام الأسد دوراً كبيراً في تأجيجه، عبر إطلاق أيدي قادة الميليشيات والمجموعات المسلحة لممارسة عمليات "التعفيش" و"الترسيم" وإدارة المعابر الداخلية بين مناطق النزاع المختلفة، مما أنعش عالم التهريب بصورة غير مسبوقة في البلاد. وهو ما يجعل العاملين في مجال العنف والمتكسبين منه، مستعدين للمساهمة في إشعال دورته مجدداً، حالما يتاح لهم ذلك، بغية التكسب مرة أخرى من "اقتصاد الحرب"، الذي أدّى إلى إثراء شريحة ملحوظة من السوريين.

أمَّا أهم العوامل، على الإطلاق، التي تجعل "الحرب الأهلية" معرضة للتكرار في سوريا، فهو الضعف المؤسساتي. فوجود بنية مؤسساتية قوية للـ "الدولة"، يقلل من احتمالات تكرار العنف بين سكان البلد الواحد. والعكس صحيح. وفي الحالة السورية، تبدو "المؤسسات" في أسوأ أحوالها. يكفي أن نشير إلى ما عرضه مسلسل "كسر عضم"، من إشارات، أثارت حفيظة صقور الموالين، لأنها تكشف عن حجم الاهتراء المؤسساتي في سوريا، حيث تسود شريعة الغاب، داخل تلك "المؤسسات". حتى "الأخيار" الذين قدمهم المسلسل، يتمكنون من تحقيق انتصاراتهم بالعلاقات الشخصية والمحسوبية، وليس بالاستناد إلى قوة "المؤسسة" التي يعملون فيها. وبعيداً عن مطارح الجدل الأخرى التي أطلقها هذا العمل الدرامي، فإنه يؤكد ما هو مؤكد في الحالة السورية؛ فـ "المؤسسات" بسوريا، مهترئة إلى أقصى الحدود، وهو ما أكده الواقع مجدداً، حينما أطلق مرسوم "العفو" الذي أصدره رأس النظام، بشار الأسد، عشية العيد، مشاهد فوضى مؤلمة ومعبّرة في الوقت نفسه. ورغم أنَّ هناك آراءً ترى أن المرسوم ذاته كان معداً بهذه الغاية، إلا أن تعليقات لنشطاء سوريين، تعرضوا لتجارب اعتقال، تؤكد أن الفوضى التي رافقت المشهد الذي تلى صدور المرسوم، لم تكن مقصودة بالضرورة. وأن الفوضى هي سمة عمل الأجهزة الأمنية، التي سبق أن أطلق الأسد يدها عشية الثورة قبل 11 عاماً، فعاثت فساداً يفوق احتمال المجتمع. والمشهد الذي آلم غالبية السوريين، تحت "جسر الرئيس"، هو تعبير جلي عن اهتراء البعد "المؤسساتي" للأجهزة الأمنية التي تشكل أبرز ركائز سيطرة النظام إلى جانب "الجيش"، المُهترئ "مؤسساتياً"، هو الآخر. 

في دراستها، تختصر الباحثة الأمريكية، والتر، أبرز عامل لتكرار "الحرب الأهلية"، بـ "الضعف المؤسساتي". وتقول بأن ذلك يفسّر لماذا تتركز ظاهرة "الحروب الأهلية المكررة" في إفريقيا وجنوب الصحراء، وفي الشرق الأوسط. ففي هذه المناطق، تتواجد بلدان هي الأضعف "مؤسساتياً" في العالم.

بمراجعة عوامل تكرار "الحروب الأهلية"، نجد أن جُلّها متوافر في الحالة السورية، وبقوة. ممَّا يجعل بلدنا مقبلاً على صراعٍ جديد، ربما في المستقبل القريب جداً. ولتجنب الوقوع في هذا "الفخ"، يجب العمل على معالجة أبرز العوامل المشار إليها. وقد تكون المقدمة في ذلك، أن تُتَاح مساءلة مسؤولي السلطة. وبما أن هذا الخيار لا يبدو محتملاً في وقتٍ قريبٍ، بسبب إصرار النظام على انتهاج الاستراتيجيات ذاتها التي أدت إلى تفجر الثورة عام 2011، فإنَّ احتمال انفجار المجتمع الأهلي في صراعٍ دامٍ مجدداً، واردٌ بشدة، أياً كانت مقدمات ذلك. فالمقدمات تبقى شرارات تفجير، تضرب على وتر الضعف الشديد في بنية التركيبة كلها، فتُشظيها.