الطريق- فراس علاوي
منذ انتصار ما سُمِّي بِـ "الثورة الإسلامية" في إيران، شرع الملالي وهم قادة الثورة، بمحاولات تصدير الثورة إلى المحيط الإقليمي لإيران، إلا أنَّ الحرب العراقية الإيرانية حدَّت وحجّمت من هذا التوسع حينها وتراجع التمدد الإيراني لعقد من الزمن؛ بسبب انشغال الإيرانيين بالعمليات العسكرية حينها.
سقوط العراق ثمّ تقديمه لإيران على طبق من فضة، بسبب استراتيجية الولايات المتحدة بعد إسقاط الدولة العراقية ومؤسساتها، ترك فراغاً استطاعت إيران ملئَه عبر شركائها المحليين، ليبدأ بعدها المشروع الإيراني بالتوسع في عواصم الدول الإقليمية؛ بدءاً من بغداد وبيروت وصولاً لدمشق وصنعاء وكذلك محاولات التدخل في البحرين ومصر والمغرب العربي، عبر استخدام الأساليب ذاتها.
تقوم استراتيجية التوسع الإيراني على التمدد داخل البلد، عبر الوسائل الناعمة، فاستخدام القوة الناعمة هو الوسيلة الأنجح لطبيعة هذا التمدد، إذ يدرك القادة الإيرانيون أن استخدام القوة سيترتب عليه رد فعل عنيف من القوى الإقليمية قد يؤدي لتوحدها أمام مشروع التمدد، لذلك كان اللجوء لاستخدام القوة الناعمة والمتمثلة بالاعتماد على قاعدة جماهيرية موجودة في البلد المستهدَف، من خلال استغلال اتباعها للمذهب الشيعي ولولاية الفقيه، استغلال التبعية والانتماء الديني لتمرير مشروع قومي توسعي هو العنوان الأبرز للتوسع الإيراني.
استغلال مظلومية الأقليات الشيعية ومن ثَمَّ دعمها وإنشاء جسم عسكري وأمني داخلها، حتى تتحول إلى دويلة داخل الدولة، وتعمل على تعزيز دعمها بالمال والسلاح حتى تصبح مسيطرة على قرار الدولة كما حدث في لبنان عندما دعمت إيران حزبَ الله اللبناني وجعلته أقوى من الدولة اللبنانية، كذلك دعم الحوثيين في اليمن وتسليحهم وإشغال الخاصرة الرخوة في الخليج، ومحاولة تطويق المملكة العربية السعودية عبر التدخل في البحرين وكذلك إثارة الأقليات الشيعية في المملكة.
في العراق كان التدخل أكبر، سواء على المستوى السياسي حين وصلت أحزاب وشخصيات سياسية للسلطة في العراق، أو على المستوى العسكري عبر إنشاء أذرع ومليشيات محلية مثل الحشد الشعبي بالعراق والذي يتبع بصورة غير مباشرة لإيران.
أمّا في سوريا، فكان التدخل مختلفاً بسبب عدم وجود قاعدة اجتماعية تتبع لولاية الفقيه، وإنما كان هناك تدخل سياسي واقتصادي ومِن ثَمَّ تدخل عسكري مباشر.
إذاً، الوضع في سوريا كان مختلفاً عن مناطق نفوذ إيران الأخرى، لذلك فهي تسعى لصناعة قاعدة شعبية لها قبيل خروجها العسكري المحتمل في ظل ما تشهده الساحة الدولية من متغيرات.
استكمال المشروع الإيراني بربط العواصم التي سيطرت عليها في دول المحيط العربي؛ من طهران إلى بغداد ثمّ دمشق وصولاً إلى بيروت، وتسعى إيران لتحقيق ذلك، لوجود منفذ على البحر المتوسط وبالتالي تسويق النفط والغاز الإيراني من جهة، والاقتراب من أوربا وطريقها البحري من جهة أخرى.
وصل التوسع الإيراني ذروته بين عامي ٢٠١٦ و٢٠٢٠عندما كانت تسيطر بشكلٍ كامل على قرار الحكومة العراقية واللبنانية، وتوسّع التدخل في كلٍّ من سوريا واليمن والبحرين.
وقد استغلت إيران غياب الدور العربي، لعدم وجود استراتيجية عربية حقيقية سواء لمواجهة مشاريع التوسع الإقليمية أو لملء الفراغ الذي أحدثته موجات الربيع العربي.
كما استفادت من سياسات إدارة أوباما واتفاقية الملف النووي التي أطلقت يدها في دول الجوار مقابل التوقيع على اتفاق هزيل يترك لها هامشاً واسعاً للسيطرة والتوسع، إلا أنَّ هذا التوسع بدأ بالأفول أو المراوحة بالمكان نتيجة إحساس الخليجيين وخاصة المملكة العربية باقتراب الخطر الإيراني من حديقتها الخلفية، وبالتالي كان لابدّ من مواجهته في داخل المملكة وخارجها، كما حدث في التدخل المباشر بالبحرين، ومن ثمَّ تشكيل التحالف العربي للحرب في اليمن.
كذلك كان لوصول ترامب للبيت الأبيض والموقف الإسرائيلي من وصول إيران إلى حدودها مع سوريا، دورٌ مهم في إيقاف هذه السيطرة والتوسع ولو بشكلٍ محدود، بعد استهداف مواقع إيران في سوريا عبر سلاح الجو الإسرائيلي، إضافةً للعقوبات الاقتصادية والسياسية التي حدّت من قدرة إيران على تمويل أذرعها بشكلٍ جيد.
في الوقت الراهن، تخوض إيران معاركها السياسية والاقتصادية على عدة جبهات، مع وجود مؤشرات على تراجعها في بعضٍ منها وتوقفها في أماكن أخرى.
العراق
كانت نتائج الانتخابات النيابية العراقية الأخيرة مفاجئة بالنسبة لإيران، إذ خسرت القوى السياسية والأحزاب الموالية لها أغلبيتها البرلمانية، مقابل قوى أخرى تبدو أقرب للعمق العربي، كذلك محاولة رئيس الوزراء العراقي الكاظمي التقرُّب من العمق العربي عبر سلسلة من اللقاءات والاجتماعات مع الدول العربية الأكثر تداخلاً في الشأن العراقي، خاصة السعودية ومصر والأردن، كذلك محاولة اللعب على المتناقضات في العراق وممارسة دور حيادي نوعاً ما.
هذه المتغيرات جعلت إيران تقبل بأن يكون العراق ميداناً لمفاوضات ثنائية إيرانية سعودية، لإعادة ترتيب مناطق النفوذ وحدود الاشتباك السياسي بين الدولتين؛ كونهما، إضافة لتركيا ومصر، من الدول الأكبر نفوذاً في الإقليم.
اليمن
بعد عدم قدرة التحالف على حسم الصراع عسكرياً، وفي ظل تراجع الحوثيين عسكرياً، كان لابدّ من البحث عن مخرج سياسي للاستعصاء الحاصل منذ سنوات، الأمر الذي تم إيجاده عبر اتفاقية المرحلة الانتقالية والتي وإن أشركت الحوثيين إلا أنها قلصت كثيراً من نفوذهم وقوتهم على الأرض خاصة بعد خسائرهم في شبوة ومأرب.
سوريا
لاتزال سوريا ساحة صراع مفتوحة تعمل فيها الفصائل والمليشيات الموالية لإيران؛ من مليشيات عراقية وباكستانية وأفغانية، كقوى تحارب بالوكالة عنها لتثبيت النفوذ الإيراني، خاصة في المناطق التي تخدم هذا المشروع في شرق وجنوب سوريا وفي البادية. بالمقابل، تتعرض هذه المليشيات لقصف متواتر ومستمر من الطيران الإسرائيلي وقوات التحالف، وذلك من أجل ضمان حالة من عدم الاستقرار فيها، كما أنّ لتجاذبات المفاوضات حول إحياء اتفاق الملف النووي مع الغرب ما يجعل الساحة السورية صندوق رسائل، خاصة مع إلحاق إدارة بايدن الملف السوري بالملف الإيراني.
لبنان
هو الحلقة الأكثر وضوحاً، وفي حال خسارة إيران للملف اللبناني فهذا يعني انحسار دورها الإقليمي، وبالرغم من عدم وجود مؤشرات لانحسار هذا الدور، إلا أن تحول لبنان لدولة شبه فاشلة تنذر بانفجار اجتماعي وسياسي مرتقب، يجعل الدور الإيراني على المحك، وما ستسفر عنه الانتخابات التشريعية اللبنانية في أيار القادم، سينبِئ عن قوة أو تراجع قبضة إيران في لبنان. إذاً فالساحة اللبنانية حالياً هي ميدان الاختبار الحقيقي لمدى نجاح المشروع الإيراني وقدرته على التوسع، أو بداية الانحسار لهذا المشروع.