الطريق- إياد الجعفري
حينما تنكشف "عورتك"، ويتضح أنك أضعف بكثير ممَّا تظن، وممَّا تُوهم به الآخرين، فإن أفضل طريقة لـ"التعمية" على هذه اللحظة، أن تصعّد تهديداتك، وأن تضخّم عدوك. فأنت لا تريد للمُشاهد أن يراك "عارياً" على المسرح.. هذا مع حصل مع القيادة الروسية التي تعرّضت للـ "العار"، حينما هوت دُرّة تاج أسطولها الحربي إلى قاع البحر الأسود، بفعل صاروخ أوكراني محلي الصنع. فكان أن أطلقت العنان لإعلامها الموالي، كي يصعّد من التهديدات، وصولاً إلى الحديث عن "الحرب العالمية الثالثة"، وتقديم ما حدث على أنه نتيجة احتكاكٍ مباشرٍ بـ "النيتو"، وليس نتيجة فشلٍ فادح في منظومات القيادة والتدريب والصيانة، للقطع العسكرية الروسية.
أصداء التهويل بـ "الحرب العالمية"، وتضخيم العدو بوصفه "النيتو" ذاته، وصلت إلى الإعلام الموالي للنظام، إذ نجد مقالاً نشرته "الوطن"، يوم الأحد، يكرر الأسطوانة التصعيدية نفسها –كلامياً- التي أطلقها الإعلام الروسي قبل يومين. وفيما كانت وزارة الدفاع الروسية، تدَّعي أن الطراد الحربي "موسكفا"، غرق بفعل انفجار ذخيرة، كان المعلّقون على الإعلام الروسي الموالي يتحدثون بـ "هياج" عن "الحرب العالمية" التي "بدأت" بالفعل.
لكن، هل تستطيع روسيا، العاجزة عن حسم حربها مع أوكرانيا حتى ساعة كتابة هذه السطور، أن تخوض حرباً عالمية ثالثة بالفعل؟
دون شك، فإن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يعيد قراءة المشهد اليوم، بعد أن انكشفت "عورة" تهالك آلته الحربية، ومنظومته العسكرية، في أول اختبارٍ عسكري جدّي له، منذ وصوله للسلطة. ومن المستبعد في هذه اللحظات أنه يفكر بأبعد من الخروج من ورطة أوكرانيا، بأقل الخسائر الممكنة على وضعه الداخلي، وعلى صورته التاريخية أمام شعبه، والتي يراهن عليها كثيراً.
قد يستهجن البعض، توصيف ورطة بوتين في أوكرانيا، بأنها أول اختبار عسكري جدّي له. لكن لو راجعنا حروبه الخمس، التي خاضها منذ وصوله إلى سدة الحكم في الكرملين، نجد أنها المرة الأولى التي يخوض فيها مواجهةً جدّية مع الغرب، بالفعل. ففي حرب الشيشان الثانية، التي بدأها بوتين فيما كان رئيساً للوزراء في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسين – كان بوتين يُعتبر الحاكم الفعلي للبلاد حينها- وهي أكثر الحروب التي خاضها بوتين، تعقيداً؛ نظراً لأنها احتوت على مواجهات وفق منطق حرب العصابات مع "المجاهدين" هناك.. راهن بوتين فيها على جملة تطورات أسهمت في تشتت "المجاهدين"، وفي تراجع الدعم الخارجي لهم. ناهيك عن أن الغرب لم يدعم "المجاهدين" هناك، ضد روسيا، خشيةً من وجود متشددين على صلة بتنظيم "القاعدة". وانتهت الحرب التي استُخدم فيها مبدأ "الأرض المحروقة"، بـ "نصر" عسكري روسي حاسم، منح بوتين شعبية كبيرة.
أمَّا الحرب الثانية التي خاضها بوتين، في العام 2008، حينما دعم الانفصاليين في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ضد جورجيا، فقد اعتمد الهجوم الروسي فيها أساساً على الميليشيات الانفصالية التي حظيت بدعم جويّ، روسي، مقابل دولة جورجيا المتواضعة عسكرياً. أي؛ لم تنخرط القوات العسكرية الروسية بحربٍ مباشرة حقيقية، هناك. كما لم تكن جورجيا مستعدة لهذه الحرب، ولم تحظ إلا بدعم سياسيّ من الغرب.
وفي عام 2014، شن بوتين حربه الأولى على أوكرانيا، واستولى على القرم، ودعم ميليشيات انفصالية في شرق البلاد. في هذه المواجهة، لم تكن أوكرانيا أيضاً، مستعدة للحرب. وكانت النخبة فيها ما تزال غير متماسكة، بعد ثورة أطاحت بحكم الرئيس الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش.
أمَّا حرب بوتين في سوريا، فاستندت، كما نعلم أساساً، على الظهير البرّي المتمثل بميليشيات النظام وإيران، وكان الدور الأبرز للقوة الجوية الروسية. لكن روسيا لم تخض معارك عسكرية كبرى، بجنودها وقطعاتها العسكرية، على البرّ السوري. كما لم يحظ "الثوار" في سوريا بدعم عسكري غربيّ، نوعيّ.
لذلك، تعد ورطة بوتين في أوكرانيا، اليوم، هي أول اختبار عسكريّ جدّي له، بالفعل. فهو لا يحارب فقط، بلداً استعدَّ على مدار ست سنوات لهذه المواجهة.. بل هو ينخرط بقوته العسكرية بشكل مباشر، في هذه الحرب، ويواجه أيضاً الغرب الذي لم يقبل منذ العام 2014، باقتطاع بوتين لأراضٍ أوكرانية، بوصفه أكبر عملية استيلاء على الأراضي بالقوة في أوروبا، منذ الحرب العالمية الثانية.. لذلك، سرعان ما انكشفت "عورات" الآلة العسكرية الروسية، ومنظومتها القيادية.
أمَّا الحديث عن "حرب عالمية"، وعن تداعيات "كبيرة" لهذا التطور، فيمكن صرفه للاستهلاك المحلي في روسيا، أو في البلدان الخاضعة لأنظمة موالية لها، كما في سوريا. لكنه لا يصلح للتخطيط العسكري. فأن تخسر أقوى قطعك الحربية بصاروخ محلي الصنع لبلدٍ أضعف منك بكثير، يعني أنك يجب أن تهدأ لتعيد النظر فيما تفعله، فالذهاب أبعد من ذلك بهذه الآلة المترهلة، وسط فشلٍ تلو الآخر، في أداء منظومات القيادة العسكرية لديك، يمثّل "انتحاراً" يستبعد كاتب هذه السطور أن يقدم عليه "قيصر" الكرملين، أو أن تقبل به النخبة الحاكمة في موسكو.