الطريق- إياد الجعفري
تتضاءل الشكوك حيال حتمية وقوع عمل عسكري روسيِّ وشيك ضد أوكرانيا، فيما تتسع –على الضفة الأخرى- مروحة الشكوك حيال مدى قدرة الحلفاء الغربيين على الانخراط معاً في ردٍ متماسكٍ ورادعٍ لموسكو. فتقديم "الناتو" كجبهة موحدة، قُوِّضَ، قبل حتى أن تبدأ الضربات العسكرية الروسية المرجّحة، ضد الأهداف الأوكرانية.
وفيما تنتظر روسيا، ذريعة لشن عدوانها، وتطيل من أمدّ حربها النفسية ضد خصومها في الغرب، ينقسم هذا الأخير، بين داعٍ للحوار مع موسكو، بزعامة فرنسا، ودعم ألمانيا، وبين مُهوّلٍ لمخاطر المواجهة المسلحة، وكأنه يرحب بها، ويستدعيها، بزعامة أمريكا، وشراكة البريطانيين ودول البلطيق الثلاث.
وبهذا الصدد، يروّج بعض المنظّرين، خاصة في العالم العربي، لرهانٍ أمريكي على تورط الروس في حرب استنزاف مكلفة داخل المدن الأوكرانية، على غرار رهانهم السابق على تعرّض الروس للاستنزاف في سوريا بعد العام 2015. لكن محللين غربيين يستبعدون هذا السيناريو. فالمكاسب التي تأملها موسكو، يمكن تحقيقها بتكاليف أقل، خاصة في ظل الانقسام الغربي حيال رد الفعل المناسب تجاهها. لذا، من المرجح أن تشن روسيا ضربات جوية تشلّ القدرات العسكرية الأوكرانية المتواضعة أساساً، وأن تقوم بـ "توغلٍ" محدود داخل الأراضي الأوكرانية، يضمن لها تعزيز جبهة حلفائها الانفصاليين في إقليم "دونباس" – شرق أوكرانيا. وقد تحتل، أيضاً، شريطاً برّياً يصل بينها وبين شبه جزيرة القرم.
أما المكسب الروسي الأكبر، فسيكون، ضعف رد الفعل الغربي ومحدودية أثره على روسيا. الأمر الذي سيؤثر أكبر الأثر على النخبة السياسية الأوكرانية، ويعزز من أسهم السياسيين الأوكرانيين المقربين من موسكو، في كييف.
ببساطة، تريد روسيا انتزاع أوكرانيا، مجدداً، من دائرة النفوذ الغربية، بأقل تكلفة ممكنة. وهذا مرجّح، نظراً لأن استراتيجية العقوبات الاقتصادية "غير المسبوقة" التي لوّح بها الرئيس الأمريكي جو بايدن، قبل أسابيع، تواجه معوقات ألمانية -بصورة أساسية- ترجع إلى حسابات اقتصادية، أبرز عناوينها، الغاز الروسي الرخيص، الذي يغذي شرايين الصناعة والتدفئة في ألمانيا.
ورغم أن معضلة الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، هي معضلة أوروبية عامة، فروسيا تزوّد أوروبا بأكثر من 40% من غازها الطبيعي، إلا أن لألمانيا خصوصية، في هذا الصدد. فهي تستورد أكثر من نصف وارداتها من الغاز، من روسيا. ناهيك عن افتقادها للبنية التحتية اللازمة لاستيراد الغاز المسال. لذا، فإن الخطة الأمريكية التي تقضي بزيادة شحنات الغاز المسال الموردة إلى أوروبا، من قطر والنرويج ودول أخرى، لا تبدو أنها تشكل حلاً للمعضلة الألمانية.
ناهيك، عن أن ألمانيا ترتبط مع روسيا، بمشروع استراتيجي لتمرير الغاز، هو "نورد ستريم 2"، الذي بات جاهزاً للتشغيل، والذي لا يمرّ عبر أوكرانيا، مما يعني أن واردات ألمانيا من الغاز الروسي، لن تتأثر بأي صراع عسكري قد يندلع في أوكرانيا.
ما سبق يحشر برلين أكثر، في زاوية الاعتماد على الغاز الروسي. وقد نجحت موسكو، عبر عقود، في تقديم نفسها بوصفها مورداً موثوقاً للغاز، رغم الأزمات السياسية الكثيرة التي اندلعت بين روسيا وأوروبا، والتي كانت ألمانيا طرفاً فيها. فـ روسيا، لم يسبق أن استخدمت الغاز كسلاح سياسي، بصورة تحرّض ألمانيا، بالذات، على البحث عن بدائل. مما جعل برلين توغل أكثر في اعتمادها على الغاز الروسي، المتدفق بسلاسة، وبأسعار أقل تكلفة من بدائله الأخرى.
لذلك نجد الموقف الألماني يرفض أية عقوبات اقتصادية مزمعة ضد موسكو، تضرّ بالمصالح الألمانية. فالطرح البريطاني، مثلاً، بأن يتم حظر روسيا من نظام مدفوعات جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت)، يعني أن دولاً أوروبية عديدة، في مقدمتها ألمانيا، لن يكونوا قادرين على تسديد ثمن الواردات الروسية، وفي مقدمتها الغاز.
وبناء على ما سبق، ووفق وثيقة تحدثت عنها وكالة "بلومبيرغ"، اشترطت ألمانيا على الأمريكيين إعفاء شركات الطاقة الغربية من أية قيود أمريكية على تعامل المصارف الروسية بالدولار. فيما الموقف الألماني النهائي من خط أنابيب "نورد ستريم 2"، ما يزال غامضاً، وسط انقسام داخل النخبة الألمانية، حيال تلك المعضلة.
وتشير الوثيقة التي تحدثت عنها "بلومبيرغ"، إلى أن ألمانيا وافقت مبدئياً على عقوبات تشمل بعض المصارف الروسية، واستيراد بعض المنتجات، وحظر تصدير مواد متطورة وتكنولوجية، وحظر سفر وتجميد أصول وقيود على شركات حكومية روسية. وتلقى ألمانيا دعماً من بعض الدول الأوروبية، في قضية الإعفاءات المتعلقة بشركات الطاقة.
النسخة المفصلة أعلاه من العقوبات، لا تشكل رادعاً كافياً لموسكو. فالاقتصاد الروسي تعوّد على التعامل مع العقوبات الجزئية منذ أزمة اجتياح القرم عام 2014. تلك العقوبات التي أضرّت بالاقتصاد الأوروبي، بقدر ما أضرّت بالاقتصاد الروسي، وفق محللين غربيين. وفي غياب توافق غربي، أوروبي- أمريكي، على اعتماد عقوبات اقتصادية شاملة، تشكل ضربة حقيقية للاقتصاد الروسي، من قبيل إخراج روسيا من نظام "سويفت" أو وقف صادرات أوروبا من الغاز الروسي، من المستبعد أن يتراجع صنّاع القرار في موسكو عن نيتهم النيل من وحدة الأراضي الأوكرانية، وإخضاع النخبة الحاكمة في كييف.
وهكذا، يدفع حلف "الناتو"، والغرب عموماً، ثمن تردد أقوى روافعه -الولايات المتحدة الأمريكية- وارتباكها، في أكثر من أزمة نوعية في تاريخ العلاقات مع الروس، خلال عقدٍ ونيف. منذ أزمة جورجيا عام 2008، مروراً بأزمة القرم عام 2014، والصراع في سوريا، وليس انتهاءً، بأزمة شرق أوكرانيا الراهنة. هذا الثمن يتبدى اليوم في عجز واشنطن عن توحيد حلفائها الغربيين، وإقناعهم باستراتيجية مشتركة. وبذلك تواصل موسكو تحقيق واحدة من أغلى غاياتها الاستراتيجية، وهي تفكيك جبهة "الناتو" السياسية، قبل العسكرية، بصورة تجعل التهديد الاستراتيجي لهذا الحلف، ذابلاً. غايةٌ بدأت موسكو بتحقيقها عبر استمالة تركيا. وتواصل اليوم تنفيذها، عبر تفكيك رد الفعل الأوروبي – الأمريكي، الموحّد.