الطريق- إياد الجعفري
أثار تطوران أخيران على صعيد ملف "التطبيع العربي" مع نظام الأسد، ارتباكاً في أوساط بعض المراقبين، الذين تغلب لديهم قراءة خطية تبسيطية لطبيعة العلاقة بين دول عربية حليفة لواشنطن، وبين صانع القرار الأمريكي الذي يبدو مرتبكاً ويتفاعل مع الحدث السوري، دون استراتيجية واضحة.
فقبل أيام، حدث اتصال هاتفي بين رأس النظام بشار الأسد، وولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد. وهو تطور متوقع في سياق حراك "التطبيع العربي" مع النظام، والذي يُعتقد على نطاق واسع أنه يحظى بضوء أخضر من البيت الأبيض بواشنطن. لكن، قبل ذلك الاتصال بأيام فقط، تراجعت السلطات الأردنية عن قرار إطلاق رحلات جوية بين دمشق وعمّان، الأمر الذي أُرجع إلى ضغوط أمريكية تستهدف لجم الاندفاع الأردني باتجاه التطبيع الشامل مع نظام الأسد.
فماذا تريد أمريكا؟ ولماذا تلجم عمّان، فيما تطلق العنان لـ أبوظبي؟ يمكن أن نجد، بطبيعة الحال، العديد من الإجابات عن هذا السؤال، لكنها جميعها مرتبكة، وقد تكون متناقضة؛ نظراً لكونها تنطلق من فهم تقليدي لطبيعة العلاقة بين دول عربية حليفة لواشنطن، وبين صانع القرار الأمريكي. ذلك أنه وفقاً لفهم معظم تلك القراءات، فإن واشنطن تملك سلطة شبه مطلقة على حلفائها، الذين لا يستطيعون التحرك دون إذنٍ مسبقٍ منها. وأن تحركاتهم الإقليمية تندرج في سياق مخطط مسبق مرسوم في واشنطن، وتقوم كل دولة عربية حليفة بدورها المحدد فيه، وبدقة.
ذلك الفهم ما يزال يحكم كثيراً من القراءات التحليلية التي تُنشر في وسائل إعلام عربية وسورية معارضة، في محاولة فهم السياسة الأمريكية، وحتى لو لم يكشف كتّاب تلك القراءات عن هذا الفهم مباشرةً، لكنه يتضح في تحليلهم، خاصة حينما يشيرون إلى نفوذ أمريكي مطلق على حلفاء واشنطن بالمنطقة.
هذا الفهم التقليدي الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة، وكان يتمتع بدقة عالية حينها، في معظم الحالات، بات خلال العقد الأخير من تاريخنا الراهن، تبسيطياً للغاية، ويقترب إلى حد السذاجة في كثير من الأحيان. إذ وفق أبرز منظّري العلاقات الدولية وعلم السياسة، يعيش العالم منذ أكثر من عقدٍ ونصف في حالة انتقالية في أنماط وأنواع التفاعل بين وحدات المنظومة الدولية. ويتضح ذلك جلياً في انكفاء النخبة السياسية الأمريكية في واشنطن، بشكل شبه كامل، عن استخدامات القوة الصلبة (العسكرية) منذ العام 2007، حينما ناقشت لجنة بيكر – هاملتون الشهيرة، أسباب الفشل في العراق، وتسربت عنها توصيات بالانسحاب التدريجي من العراق، والتفاوض مع إيران وسوريا، رغم ضلوع نظام الأسد، المرجّح، في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري.
منذ ذلك التاريخ، وملامح منظومة دولية جديدة، تتبدى جلياً. صعود قوى دولية وإقليمية، تتحدى واشنطن، فيما تميل الأخيرة إلى اعتماد أساليب مواجهة بأقل تكاليف ممكنة، خاصة على الصعيد العسكري، إلا في الحالات التي تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الأمريكي. وهذا ما سارت عليه سياسات الرئيسين التاليين لـ جورج بوش الابن، باراك أوباما، ودونالد ترامب. ويشكل جو بايدن، أحد رموز النخبة الأمريكية المؤيدة لاستخدامات القوة الناعمة والحد من التدخلات الخارجية. وبهذا الصدد، لا يختلف الديمقراطيون والجمهوريون كثيراً في القواعد العريضة لهذه الاستراتيجية، وإن كانوا يختلفون حول تكتيكاتها.
ما سبق أدى إلى تجلٍّ واضح لمنظومة دولية جديدة؛ من حيث الأدوات وآليات التفاعل بين القوى الدولية والإقليمية، بحيث باتت المنظومة الدولية، تعددية الأقطاب، بشكل واضح، يعيد العالم إلى ملامح في العلاقات الدولية كانت سائدة خلال القرن التاسع عشر.
وفي المنظومة الدولية الجديدة، تعددية الأقطاب، تسود معادلة شهيرة، تتمثّل في سعي الدول لتكوين أحلاف لحفظ توازن القوى، وحماية أمنها واستقلالها. لكن تلك الأحلاف تكون مرنة للغاية، خلافاً لطبيعة الأحلاف التي تسود في المنظومة ثنائية الأقطاب، كما كان سائداً زمن الحرب الباردة، حيث تكون الأحلاف محدودة المرونة، وتدور الدول المتحالفة في فلك قوة محددة، تفرض قواعد اللعبة وتحدد الأدوار. وهذا ما كان سائداً في العلاقة بين الدول العربية الحليفة لواشنطن، وبين صانع القرار الأمريكي خلال الحرب الباردة، حيث كانت سيطرة واشنطن على قرار تلك الدول واسعة للغاية. أمّا اليوم، ومع تخلي أمريكا بملء إرادتها عن أدوار مرتفعة التكلفة، للحفاظ على هيمنتها العالمية، كما حدث في الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، فقد أصبحت الدول العربية الحليفة لواشنطن بحاجة ملحة لتنويع تحالفاتها وعلاقاتها ومصادر ضمان أمنها. وباتت واشنطن عاجزة عن ضبط تحركات حلفائها بالمنطقة، بالصورة التي كانت قائمة سابقاً؛ لأنّ عملية الضبط السابقة مكلفة، وترتب التزامات لا تريد واشنطن التورط فيها حقيقةً، في الوقت الذي تركز فيه على صعود التحدي الصيني في جنوب شرق آسيا.
ووفق هذه القراءة يمكن أن نفهم نمو هامش أكبر من الاستقلالية لدى حلفاء واشنطن العرب في صنع القرار على صعيد السياسة الخارجية. ويمكن ملاحظة هذا الهامش بشكل جلي في اقتراب عدد من هؤلاء الحلفاء من إيران وروسيا والصين. وحتى مع امتعاض واشنطن من هذا الاقتراب، أو التقرّب، لم تكن العاصمة الأمريكية راغبة بالقيام بالكثير، للجم ذلك؛ نظراً للكلفة والالتزامات التي تترتب على عملية اللجم تلك.
فإذا كان الأردن أكثر التصاقاً، الآن، بالحليف الأمريكي، لرهانه على إدارة بايدن، دون أن ينفي ذلك، أن عمّان بصدد فتح خطوط تواصل مع طهران، وفق ما أشارت إليه تسريبات إعلامية ــ فإنَّ الإمارات تبدو أكثر استقلالية، وميلاً لتخفيف رهانها على الأمريكيين، خاصةً بعد أن خسرت حليفاً مقرّباً مع رحيل دونالد ترامب عن سدّة الحكم بالعاصمة الأمريكية.
ما ينطبق على الإمارات، ينطبق كذلك على مصر، التي وسّعت من هامش علاقاتها مع روسيا، رغم الامتعاض الأمريكي الواضح. كذلك ينطبق بنسب مختلفة على السعودية، التي أظهرت منذ السنوات الأخيرة من ولاية باراك أوباما، ميلاً لعدم الرهان على الأمريكيين، الذين خذلوها في سوريا تحديداً، حينما رفضوا استراتيجيتها في الرهان على قوى مسلحة سلفية للإطاحة بنظام الأسد ومواجهة النفوذ الإيراني. كما رفعت الرياض يومها، لواء التمرد على واشنطن، بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، فألمحت السعودية بنيتها التوجه نحو موسكو وبكين، وتوترت العلاقات بين الحليفين التاريخيين، لأشهر، قبل أن يصل دونالد ترامب إلى سدة الحكم، ويرمم هذا التوتر.
خلاصة ما سبق؛ أنّ القراءة وحيدة الاتجاه، التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة، والتي تفيد بأن واشنطن تخطط، وزعماء دول عربية ينفذون، لا تبدو مناسبة لفهم تعقيدات السياسة بالمنطقة العربية في زمننا الراهن. ففي عالم تعددي الأقطاب، حيث تصعد الصين وتذوي هيبة أمريكا، علينا اللجوء إلى دروس التاريخ من حقب مشابهة، حينما كان الحلفاء، كفرنسا وبريطانيا مثلاً، يتصارعان في مطارح، في الوقت نفسه الذي كانا فيه يتحالفان في مطارح أخرى.