العقيد عبد الجبار العكيدي
لا يبدو أن الحديث عن "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" يثير مزيداً من شهيّة الكلام لدى الكثير من السوريين، وحتى في حال اقتضت الضرورة لذكره فغالباً ما نجد انزياحاً لدى المتحدث والسامع معاً إلى مساحة يمتزج فيها القنوط بالسخرية المرّة.. ليس عزوفاً عن التعاطي مع قضايا الشأن العام السوري، وليس تجرّداً لجمهور الثورة من رغبةٍ طالما سكنت نفوسهم، بوجود كيان سياسي يمثلهم ويكون معقد آمالهم في الدفاع عن قضيتهم، بل ربما لقناعة تعززت في نفوس الكثيرين بأنه ليس الائتلاف فحسب، بل مجمل الكيانات الرسمية للثورة باتت جزءاً من المشكلة السورية بدلاً من أن تكون سبيلاً من سبل الحل.
ولكن على الرغم من ذلك، يبدو ان إشكالية الائتلاف باتت – بالنسبة إلى جمهور الثورة – كبالع السكّين، من جهة أن هذا الكيان مهما بدت فاعليته هزيلة، وبنيانه متآكلاً، وتشظياته حارقة لآمال السوريين، إلّا أنه من جهة أخرى، لا يزال – وحده – من يحظى باعتراف سياسي إقليمي ودولي بتمثيل الثورة سواء أقبل السوريون أم لم يقبلوا، وهو كذلك ما يزال قادراً على الحيلولة دون قيام أي كيان موازٍ له، بغضّ النظر عمّا إذا كانت بواعث قدرته تلك ذاتية ام بأدوات خارجية، فربما هذه الأسباب جميعها جعلت حضور الائتلاف في حديث الناس جزءًا من حضور معضلاتهم الأساسية التي لا يمكن التنصّل منها.
ربما لم تخلُ ثورة من ثورات الشعوب أو حركات التحرر الوطني، وبخاصة التي امتدّ عمرها إلى سنوات طوال، من إشكاليات واهتزازات داخل بنية كياناتها، إلّا أنها كانت تجد سبيلها إلى الحل قبل أن تصل إلى مرحلة الاختناق، وذلك حين يكون مبعث هذا الاختناق داخلياً لم تتحكّم به أطراف من خارج الأسوار الوطنية، وذلك بحكم أن الثورات قادرة باستمرار على تجديد دوراتها الدموية طالما انها تستمد مشروعيتها من قضايا عادلة ومطالب شعبية مشروعة، فضلاً عن إرادة بعدم الرجوع إلى الخلف. أمّا مشكلة الائتلاف الوطني في سوريا، فيبدو أنها عبرت طورها البسيط لتدخل في الطور المُركَّب، بل ربما حملت عوامل تعقيدها وانسدادها مع الساعات الأولى لنشأة الائتلاف.
فمنذ ولادة هذا الكيان في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2012 ، ولد معه سؤالٌ يحمل في طيّاته الكثير من الريبة والشك: لماذا أقدمت الجهات الدولية النافذة في الشأن السوري على استبدال المجلس الوطني بالائتلاف؟ ولماذا ارتضى أعضاء المجلس الوطني بهذا الإجراء، بل لماذا قبل قسم من أعضائه الانضمام إلى الجسم الجديد وهم على علمٍ شبه أكيد بأن تحفيزهم للالتحاق بالجسم الجديد ما هو إلّا خطوة أولى نحو احتوائهم في تشكيل أكثر قابلية للترويض والسيولة؟
لعل الإجابة عن تلك التساؤلات وسواها لم تكن – ومنذ وقت مبكّر- خافية، ليس على المجلس الوطني فحسب، بل على الأكثرية من السوريين أيضاً، ولكن الجميع في الوقت ذاته وقفوا أمام خيارين إثنين: إمّا القبول بما تريده الإرادة الدولية والتماهي معها، سواء عن قناعة أو بدونها، وإمّا الانزياح عن المشهد وإخلاء المكان لمن سيأتي ويملؤه، وربما تعلّل الكثير ممن انضوى في الائتلاف حينذاك، بأن النشأة الخاطئة ربما تكتسي قوامها الصحيح مع مرور الزمن، إلّا أن الرهان على الزمن قد أتى بنتائج عكسية، لسبب بسيط مؤدّاه أن الأطراف الدولية التي صمّمت شكل هذا الجسم ودشّنت محتواه بما تقتضي مصالحها وليس بما يريده السوريون، لن تترك هامشاً واسعاً أو خيارات أخرى لأعضائه كي ينعطفوا بسفينتهم التي حُشروا بها إلى معين قضيتهم، بل ستدفع بتلك السفينة نحو الجهات التي تريدها هي، وهكذا أصبح عامل الزمن حاملاً لنتائج عكسية لم تعد النوايا الحسنة قادرة على مواجهتها.
ولكن في الطرف المقابل ثمة من يرى أن ما أدّى بالائتلاف إلى حالة الشلل السريري هذه هي عوامل موضوعية خارج إرادته، بل تفوق قدراته وإمكاناته الذاتية، ولعل أبرزها:
1 – التدخّل الدولي المبكِّر في الشأن السوري، والمسارعة الدولية لاحتواء أي مبادرة وطنية، بغية ترويضها، ومن ثم وتوظيفها بالطريقة التي تخدم مصالحها.
2 – على الرغم من وجود تمثيل للفصائل العسكرية في جسم الائتلاف، إلّا أن هذا التمثيل ظل شكلياً بالمطلق، ولم يمنح الائتلاف أي سلطة فعلية على الفصائل العسكرية.
3 – لقد أسهمت الدول الداعمة للثورة في تحييد الائتلاف وتهميشه من خلال علاقاتها المباشرة مع الفصائل العسكرية دون أي اعتبار للتراتبية القيادية، مما جعلت الأطراف العسكرية والمدنية المدعومة لا ترى حاجة في جسم سياسي قيادي تأتمر بأوامره.
ولكن ثمة من يرى أيضاً، أن العوامل السابقة كانت ظاهرة للعيان منذ البداية، ولم تكن لاحقة لنشأة الائتلاف ولم تكن مباغتة لسيرورته، فضلاً عن أن المواقف العملية للائتلاف كانت على الدوام تتجه نحو تكريس تلك الإشكاليات، وليس العكس، ولا أدلّ على ذلك من حالة الارتهان شبه المطلق للإرادات الدولية وعدم القدرة على إنتاج أية مبادرة وطنية منبثقة من حراك وطني شعبي.
بل ربما يضيف آخرون أن الائتلاف – وبعد مرور عقد على تشكيله – لم يستطع أن يخرج من غربته الشعبية والجماهيرية، إذ إنه ما يزال يفتقر إلى أي جسور حقيقية بينه وبين جمهور الثورة، يُستثنى من ذلك زيارات قادته لبعض الفصائل العسكرية، والظهور في بعض مناطق الداخل السوري والتقاط الصور لغايات دعائية لا أكثر. بل ربما ذهب البعض إلى أنه على الرغم من الحضور القوي للائتلاف في بعض الدول، كتركيا مثلاً، إلّا أنه لم يستطع أن يقدّم للسوريين اللاجئين في تركيا أبسط الخدمات، وبخاصة من جهة الوثائق الرسمية، ولعل الحالة الوحيدة التي يذكرها السوريون ولن تُمحى من ذاكرتهم، هي إصدار الائتلاف جوازات سفر، تبين فيما بعد أنها مزوّرة، وربما تعرّض الكثير من حاملي تلك الوثيقة إلى المساءلة من جانب سلطات الدول الأخرى، فماذا يمكن تسمية تلك العملية؟
ربما ما انتهى إليه الائتلاف في الوقت الراهن بات باعثاً للإحباط لدى حتى بعض أعضائه، ولكن من حيث النتيجة، جميع من بداخل الائتلاف هو في حالة استمراء كامل لحالة من الاستنقاع في البؤس، دون أن يكون هذا البؤس باعثاً لصحوة سواءٌ في الوعي أو الضمير، إلّا أن المشكلة تبدو أكثر فداحة للجمهور العام للثورة حين يجد أن هذه القيادة المتمثلة بالائتلاف عاجزة عن النهوض ولكنها قادرة على التعطيل في الوقت ذاته، فهي – مع إقرارها بعجزها - لا تقبل التنحي أو الاستقالة أو مجرّد الانزياح عن تعتبره امتيازاً لها، وهي مصمّمة أيضاً على تعطيل أي مسعى لطرف آخر أن يكون البديل، وحينئذٍ تتحوّل المشكلة لدى الائتلاف من حيّزها السياسي لتصبح مشكلةً أخلاقية في الصميم.
المصدر: المدن