علي العبدالله
لا يشكل الخلاف الخليجي الأميركي بشأن النفط إلا قمة جبل الجليد في ضوء ما تشهده العلاقات الخليجية الأميركية من تبايناتٍ في ملفاتٍ كثيرة، أهمها أمن دول الخليج العربية، على خلفية ما تتعرض له من تهديدات من إيران وأذرعها، ورد الفعل الأميركي اللفظي، ما دفعها إلى موازنة علاقاتها مع الولايات المتحدة بالانفتاح على قوى كبرى، روسيا والصين، وما ترتب على ذلك من تبعات: تحوّلها إلى ساحة للتنافس بين هذه القوى، وتعرّضها لضغوط ومساومات كبيرة وكثيرة.
ارتبط التحرّك الخليجي للبحث عن غطاء أمني بديل، أو مكمّل، للغطاء الأميركي القائم، الذي تعرّض للاهتزاز وعدم اليقين، بتوجّه الولايات المتحدة إلى العمل على صياغة توازنات إقليمية راسخة في المنطقة، عبر تكريس معادلةٍ هدفها ضمان أمن إسرائيل، عبر تفكيك النظام الإقليمي العربي ودفع مكوّناته نحو التباعد والتصادم، وضمان تدفق النفط، عبر الدفع نحو تقاسم النفوذ في منطقة الخليج العربي بين السعودية وإيران، توازن تضمن به مصالحها الرئيسة، وتخفّف من التزاماتها الأمنية مع دول الخليج العربية، لتتفرّغ للخصم الصاعد: الصين. وهذا استدعى تغيير مواقفها من ملفاتٍ سياسيةٍ وأمنية: اليمن والسياسة التدخلية التي تتبعها إيران مع دول المنطقة، وتشكيلها مليشيات مذهبية لضرب استقرارها، إرضاء لإيران، كي توقع على اتفاق حول برنامجها النووي يقيّده، ويضع له سقفا حفاظا على تفوّق إسرائيل في الإقليم، من دون اعتبار لأمن دول الخليج العربية، ونقل موارد عسكرية من هذه الدول إلى شرق آسيا وجنوبها، ملفات تعتبرها هذه الدول من صميم أمنها الوطني، ما أشعرها بالانكشاف وفقدان التوازن مع إيران.
تزامن هذا التطوّر مع تحركين دوليين، روسي وصيني: الأول على خلفية السعي إلى احتلال موقع الاتحاد السوفييتي، قطبا ثانيا في نظام ثنائي القطبية، والثاني لتعديل السياسات التي تحكُم النظام الدولي القائم، بحيث تحظى بالاحترام والندّية والتعامل العادل في مجالات التجارة والتقنية، كما تزامن مع تحرّكات من دول متوسطة، إيران وتركيا، وصغيرة، فنزويلا، لمواجهة الهيمنة والسيطرة الأميركية والتحرّر من تبعاتها، إيران الساعية إلى استعادة نفوذ إمبراطوريتها الفارسية عبر إخراج القوات الأميركية من منطقة الخليج العربي، ولعب دور مقرّر فيها وتحدّي النفوذ الأميركي باستفزازاتٍ في مياه الخليج العربي: احتجاز ناقلات نفط والتهديد بإغلاق مضيق هرمز، وإطلاق برامج تسلّح: صواريخ بالستية وطائرات مسيّرة وبرنامج نووي تحيط بطبيعته التساؤلات؛ والتمدّد في عدد من دول المشرق العربي، والانخراط مع الصين وروسيا في علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية واسعة. تركيا من خلال السعي إلى الاستقلالية والتحرّر من التبعية للولايات المتحدة، عبر فتح علاقات واسعة مع روسيا والصين وشراء أسلحة روسية، على الضدّ من التوجه الأميركي، والعمل على التحوّل إلى قطب إقليمي عبر التحرّك في ملفاتٍ كثيرةٍ بحساباتٍ وطنيةٍ صرفة، وخارج توجّهات الولايات المتحدة وحلف الناتو، وسعيهما، إيران وتركيا، إلى بسط نفوذهما على دول الإقليم، والنجاح في اختراقها، فنزويلا بترويج رؤية سياسية واقتصادية اشتراكية، تتناقض تناقضا حادّا مع التوجهات الأميركية، في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.
لم ينل التوجّه الأميركي بإعادة صياغة توازنات المنطقة والانسحاب نحو آسيا رضى دول الخليج العربية، رأت فيه خدمةً لإيران، وتوسيعا وتعزيزا لنفوذها على حساب أمنها ومصالحها، خصوصا وقد تهدّد أمنها الوطني بصورة مباشرة، عبر عمليات أذرع إيران تارة والحرس الثوري الإيراني أخرى، وهي متعاقدة مع الولايات المتحدة على الحماية مقابل النفط، فكيف الحال بعد تخلّي واشنطن عن التزاماتها الأمنية إزاءها. وهذا بالإضافة إلى التدخل الأميركي في سياستها الداخلية ومراقبة خرقها الحريات العامة وحقوق الإنسان، دفعها إلى البحث عن ظهير بديل، فانفتحت على روسيا والصين، على الضد من التوجه الأميركي العامل على عزلهما دوليا، وبدأت بانفتاح اقتصادي معهما يمنحهما فرصا لتعزيز نفوذهما وتسجيل نقاطٍ على حساب الولايات المتحدة في سياق استراتيجية تنافس القوى العظمى، ودخلت معهما في عملياتٍ تجاريةٍ واستثماريةٍ واسعة وصفقات أسلحة، بما في ذلك إقامة مصانع لطائرات مسيّرة وصواريخ صينية في السعودية.
لم يقف التعاون في مجالات محددة أو حدود معينة، بل زاد واتّسع بعد تشكيل أطر ومجالس للتعاون وتطوير العلاقات وإطلاق استثمارات خليجية كبيرة في سوقي روسيا والصين والانخراط معهما في حوارات استراتيجية بشأن النفط والغاز والأسلحة مع روسيا؛ والتعاون الاقتصادي، بما في ذلك الانخراط في مبادرة الحزام والطريق، والتقني، رقمنة البنى التحتية باستخدام تقنية صينية، مع الصين. وقد ظهّر الغزو الروسي أوكرانيا عمق التباين الخليجي الأميركي، حين اتفقت دول الخليج العربية، السعودية بشكل خاص، مع روسيا في تجمع أوبك+ على خفض إنتاج النفط مليوني برميل يوميا بدءا من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، في تحدٍّ سافر لرغبة الولايات المتحدة، ودعوتها إلى زيادة الإنتاج من أجل توفير كمياتٍ تعوّض النفط الروسي وتخفّض، في الوقت نفسه، ثمن البرميل، بحيث تقلّص موارد روسيا المالية منه، والحدّ من قدرتها على تمويل عدوانها على أوكرانيا؛ وتخفّض سعر الوقود في الدول الغربية، وزاد الطين بلةً تواصلها مع روسيا وزيارة رئيس الإمارات، محمد بن زايد، موسكو واجتماعه مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ودعوة الرياض الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لزيارة السعودية وإعداد برنامج زيارة حافل، بما في ذلك عقد ثلاث قمم: قمة سعودية صينية وقمّة خليجية صينية وقمة عربية صينية. ما يعني منح الصين فرصةً لملء الفراغ الذي قد تتركه الولايات المتحدة في المنطقة، والحصول على مزايا تفضيلية. احتلت السعودية مركز المزوّد الأول للصين بالنفط، اتفقت معها على دفع نسبة من ثمن النفط بالعملة الصينية، والمركز الأول للاستثمارات الصينية الخارجية، وأصبحت الصين الشريك التجاري الأول لها، في علاقاتٍ متصاعدةٍ ومتناميةٍ من تصدير النفط إلى الاستثمارات والتعاون في صناعة الأسلحة ورقمنة البنى التحتية، عزّزها تبنّي الصين سياسة عدم التدخل في السياسات الداخلية للدول وغضّ النظر عن خرق الأنظمة حقوق الإنسان عبر الفصل التام بين السياسة والتجارة، وهذا أشعرها بالانتماء فتقدّمت خطوات للتموضع مع روسيا والصين بالعمل على الانضمام إلى مجموعة البريكس، والمشاركة في منظمة شنغهاي للتعاون بصيغة شركاء في الحوار.
جاء توجّه دول الخليج العربية الجديد على هوى روسيا والصين وخدم مصالحهما، سوق النفط والحصص والأسعار وصفقات أسلحة واستثمارات، بالنسبة لروسيا، وكميات كبيرة من النفط وفتح أسواقها للسلع الصينية وصفقات أسلحة، بالنسبة للصين، لكنه لم ينجح في تجاوز عقدة مركزية في المشهد: علاقة روسيا والصين القوية مع إيران، الخصم الأول لدول الخليج العربية، السعودية بشكل خاص، حيث شكّل الموقف من إيران وسياستها الخارجية السبب الرئيس في التوتر بين الأخيرة والولايات المتحدة، على خلفية مواقف الإدارات الأميركية الرخوة من البرنامج النووي الإيراني، وردودها الفاترة على الاعتداءات الإيرانية على دولها وعلى تمدّدها في دول عربية والتحكّم بقرارها السياسي، فروسيا على علاقة تعاونٍ وتنسيقٍ قوية مع إيران، أكملت لها بناء مفاعل بوشهر وزوّدتها بوقود نووي له وبأسلحة متطورة، إس 300، وتعاونت معها في سورية، حيث قدّمتا دعما عسكريا مباشرا للنظام السوري في مواجهة ثورة شعبية، وقد تعزّز التعاون والتنسيق بتبنّي إيران وجهة نظر روسيا بشأن غزوها أوكرانيا، قدّمت لها أسلحة: مسيّرات انتحارية؛ وهي في طريقها لتزويدها بصواريخ متوسّطة المدى؛ بعد تعرّضها لنكساتٍ في الميدان، وقف خلف الدعم العسكري الإيراني لروسيا قلقها من هزيمة روسيا وخسارتها لظهير دولي قوي، جمعهما موقف موحد من الولايات المتحدة وعملهما المشترك لضرب هيمنتها ونفوذها، ما سيؤدّي إلى إضعاف موقفها الإقليمي والدولي، وتعد معها لاتفاقية تعاون استراتيجية طويلة الأمد. الصين هي الأخرى على علاقة وثيقة بإيران، اعتبرتها حلقة رئيسة في مبادرة الحزام والطريق، وعقدت معها اتفاقية تعاون استراتيجية تستثمر فيها مبالغ طائلة، 400 مليار دولار خلال 25 سنة، وزوّدتها بأسلحة وخبرات تقنية. ما جعل المشهد السياسي معقّدا ومربكا لدول الخليج العربية التي استجارت من تجاهل واشنطن وغطرستها بحلفاء خصمها الاستراتيجي (إيران)، وأدخلتهم في حياضها من دون أن تضمن طبيعة تعاطيهم مع قضاياها ومصالحها الوطنية وطبيعة مواقفهم في حال انفجار أزماتٍ ومواجهاتٍ مع هذا الخصم. لقد أصبحت مثل بالع الموس عالحدّين، وقد لمست لمس اليد عدم جدوى استجارتها بروسيا والصين لتعزيز موقفها في وجه التهديد الخارجي، الإيراني تحديدا، حين لم تحرّكا ساكنا في مواجهة التهديدات الإيرانية ضد السعودية، على خلفية اتهامها بدعم التظاهرات الاحتجاجية وتغطية وقائعها في كل المدن والبلدات إعلاميا والتحريض على النظام الإسلامي فيها، فلجأت إلى الولايات المتحدة تطلب العون ضد هجوم إيراني متوقع على أراضيها.
منحت تقارير الاستخبارات السعودية بشأن الهجوم الإيراني المتوقع إدارة بايدن فرصة للتحرّك لحماية دول الخليج العربية، وهي التي كانت تراجع العلاقات مع المملكة، على خلفية قرار أوبك+ بخفض إنتاج النفط، باستنفار قواتها في السعودية ودول الخليج العربية الأخرى وإطلاق طائراتها نحو الحدود الإيرانية في رسالة ردع قوية لإيران، وللتأكيد لدول الخليج العربية أن العلاقة الأمنية مع روسيا والصين ليست موثوقة أو مجدية، كما هي العلاقة مع الولايات المتحدة.
صحيحٌ أن العدوان الروسي على أوكرانيا وتبعاته الإقليمية والدولية، أزمة الطاقة خصوصا، قد أعادت الاعتبار لدول الخليج العربية مصدرا رئيسا للطاقة وأهميتها للاستقرار العالمي، لكنه وضعها، في الوقت نفسه، في موقف دقيق وحسّاس، فارتفاع ثمن برميل النفط سيعيد شركات النفط الزيتي الأميركية إلى العمل، ما يسمح بتوفير كميات كبيرة من النفط، ويدفع الأسعار إلى الهبوط، فتخسر على المستويين المادي، بتراجع سعر برميل النفط، والسياسي، باستمرار الفتور مع الولايات المتحدة؛ وعدم توفر بديل للحد من تنمّر إيران. المخرج الموضوعي لمآزقها ليس الاعتماد على الحماية الخارجية، بل في تعزيز أمنها بقدراتها الذاتية، أولا وأساسا، وتدعيمه بشبكة علاقات إقليمية ودولية تاليا، وهذا يستدعى إعادة نظر في العقد الاجتماعي الوطني، والذهاب إلى صيغ تلحظ مشاركة الشعوب في القرار الوطني، وأخذ تطلعاتها بالاعتبار، حتى تتعزّز الوحدة الوطنية، وتضمن استقرار الجبهة الداخلية وتجاوبها في مواجهة الصعاب الداخلية والتحدّيات الخارجية.
المصدر: العربي الجديد