منير الربيع
للغة الجسد مؤشرات كثيرة في عالم السياسة. للهفوات أو الأخطاء التقنية مؤشرات أيضاً. كان آخرها الفيديو الذي انتشر لرئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد والمبعوث الرئاسي الأميركي لشؤون أمن الطاقة العالمي آموس هوكشتاين خلال توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان. يهمس لابيد في أذن هوكشتاين بأن هذا الاتفاق يمنح الوسيط الأميركي فرصة التحرر من أي أعباء قد تلحق به من جراء سوء العلاقة مع السعودية. وثمة ترجمات أو تعليقات كثيرة أخرى أرفقت بهذا الفيديو توحي بوضوح أن السعودية مستهدفة.
يمكن تقديم صورة تبسيطية لهذا المشهد بالقول إن الانقسام السياسي واضح، بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من جهة ومن ضمنها آموس هوكشتاين وروبرت مالي وغيرهما، بالتضافر والتكامل مع يائير لابيد. في مقابل التضامن بين بنيامين نتنياهو والجمهوريين وخصوصاً دونالد ترامب. وثمة من يضع السعودية في صف الجمهوريين وأن رهانها يبقى على هزيمة جو بايدن في الانتخابات النصفية وفي الانتخابات الرئاسية بعد سنتين مقابل عودة الجمهوريين. إلا أن هذه القراءة تبقى تبسيطية ولا تلج إلى بواطن الأمور وأعماقها بالاستدلال إلى وجود مشكلة حقيقية وبعيدة المدى في العلاقات الأميركية السعودية، وبالمعنى الأوسع هو سوء في العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة والعرب من جهة أخرى، بغض النظر عن محاولات أميركا في استقطاب عدد من الدول العربية والدخول في اتفاقات معها بالتزامن مع توتر علاقاتها مع دول عربية أخرى أبرزها السعودية.
سيكون لهذا المسار السلبي من العلاقة أثر بعيد المدى، خاصة أن الحرب ضد السعودية والغرب تعود إلى سنوات ماضية وتحديداً في فترة الحرب على الإرهاب والتي تم تصويرها بأنها حرب ضد العرب والسنّة تحديداً، وكانت الغاية منها محاولة تطويق السعودية والدولية العربية ودفعها إلى شراء صكوك الغفران الغربية. وبالعودة إلى الحرب على الإرهاب، والتي أرادت فيها الولايات المتحدة الأميركية وفق سياستها الجديدة تحجيم الدور العربي وصولاً إلى الانقلاب على المبادرة العربية للسلام، واجتياح العراق مقابل تعزيز النفوذ الإيراني في الرافدين وتالياً في لبنان، سوريا وصولاً إلى اليمن. كل هذه المؤشرات تدل على حجم الهجمة التي يتعرض لها العرب وخصوصاً السعودية أولاً، مروراً بالتطورات التي شهدها العراق وسوريا واليمن.
ويبقى الاستهداف للسعودية مستمراً، سواء قبل حقبة التحديث والتطوير التي يقوم بها ولي العهد محمد بن سلمان، أو بعدها، خاصة أن الأميركيين يخوضون معركة تنطوي على محاولات لتحجيم دور السعودية أو نفوذها أو حتى التآمر عليها. لا يقتصر الأمر على المواجهة أو المعركة بين المملكة العربية السعودية من جهة والحزب الديمقراطي الأميركي من جهة أخرى أو الرهان على عودة الجمهوريين ففي أميركا دولة عميقة لها استراتيجياتها بغض النظر عن نوع أو شكل الإدارة وآلية إدارتها للعلاقات مع الحلفاء أو الخصوم.
العنوان الأساسي لهذه المعركة هو استمرار واشنطن في البحث عن تنويع مصادر الطاقة والنفط للحدّ من النفوذ السعودي والروسي على أسواق النفط العالمية. أيضاً هناك محاولات أميركية لخلق شراكات جديدة عربية بمعزل عن السعودية كما هو الحال بالنسبة إلى الغاز والنفط في مصر والجزائر والبحر الأبيض المتوسط، ليبيا، إسرائيل، وقبرص. تعي السعودية ذلك إلى حدود بعيدة، وهي أيضاً تبحث عن مصادر أسلحة جديدة وعن تحالفات متنوعة، لا سيما بالاتجاه شرقاً نحو روسيا والصين أو بناء تحالفات جديدة. لكن هذه أيضاً لن تكون كافية ولا مفيدة سوى باستخدامها في إطار الإمساك بالكم الأكبر من الخيوط، وهنا لا بد من الوقوف أمام نقطتين أساسيتين، النقطة الأولى التداعي الذي تعانيه روسيا من حربها على أوكرانيا والهزائم التي منيت بها بنتيجة التعثرات الكثيرة. وثانياً زيارة نانسي بيلوسي إلى الصين من دون أي أثر صيني مباشر وفعلي وسريع.
يحلو لبعض خصوم الولايات المتحدة الأميركية الاستمرار في إطلاق عبارة "النظام العالمي الجديد" والذي يضعونه في خانة نظام ما بعد الأحادية القطبية وكأنه يأتي في مواجهة مع أميركا أو كمحاولة لتقويض نفوذها، إلا أن ذلك لا يبدو خارجا عن استراتيجية واضحة لدى الأميركيين ومنذ سنوات تحدث عنها كثير من منظريهم حول وقف مسار تحمّل تكاليف الأمن العالمي، وثانياً البحث عن صيغة تشاركية لريادة النظام العالمي، وثالثاً أن أي نظام عالمي لا بد لأميركا أو لجهات مؤثرة ومقررة فيها تكون قد عملت على التنظير إليه مسبقاً. وعليه لن يكون مفيداً الدخول في مواجهة مع ما يعرف بالعالم الغربي، مع الاحتفاظ بالعلاقات مع الشرق وتطويرها وتعزيز والاستفادة منها على قاعدة المصلحة لا على قاعدة ردّ الفعل الغاضبة من واشنطن، ثانياً والأهم فإن المسألة تتركز بين يدي السعودية في استعادة كثير من الأوراق التي تخلت عنها مسبقاً من بينها ساحات عربية وإقليمية متعددة، أبرزها لبنان، سوريا، العراق فبهذه الاستعادة يستعاد الدور الإقليمي بالمعنى السياسي والجيوستراتيجي، من دون الارتكاز فقط على مسألة النفط والنفوذ المتعلق به على الساحة العالمية.
وهنا لا بد من العودة التاريخية إلى مواقف متعددة ستبدو غريبة وستقود ربما إلى تلقي كثير من الشتائم، إلا أن النظام العالمي الذي قام منذ الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى ما بعد انهيار الثنائية القطبية، كله لم يخرج عن المندرجات أو الرؤى الأميركية، لا سيما أن واشنطن عملت تاريخياً على دعم متناقضات في ساحات مختلفة سواء بدعم الحلفاء في الحرب العالمية الأولى والتخاصم معهم بعدها، مروراً بتأثير للأميركيين واليهود في إنجاح الثورة البلشفية وإرساء هذه القواعد التي استثمرت لاحقاً، خاصة في الحرب العالمية الثانية والتي تدخلت فيها أميركا بالحرب لحسم اتجاهاتها ووضع مشروع مارشال لاحقاً. بالنظر إلى التطورات الحديثة، أميركا وحدها المستفيدة في الحرب الروسية الأوكرانية، بإضعاف روسيا وربما التمهيد لإرساء قواعد جديدة فيها لاحقاً، وكذلك بإضعاف أوروبا وإعادة بناء ما يشبه مشروع مارشال.
المصدر: تلفزيون سوريا