محمود عثمان
التوسع الأخير لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) الذي شمل منطقة عفرين، أثار سلسلة من التساؤلات والاستفسارات والشبهات، التي لم تقتصر على تواطؤ بعض فصائل الجيش الوطني، وفتحها الطريق أمام الهيئة لتقضم مساحات أخرى من الشمال السوري المحرر، بل تعدتها لتشمل موقف بعض القوات الدولية والإقليمية صاحبة الكلمة النافذة في الساحة السورية، التي لم تعترض على تغول الهيئة وتوسعها على حساب الجيش الوطني، بل بدت وكأنها تؤيد ذلك وتريده، حيث لم ينتظر الطيران الحربي الروسي سوى ساعات معدودات ليقوم بقصف الشمال السوري، بذريعة محاربة الإرهاب طبعا!.
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن سيناريو توحيد الشمال السوري تحت راية جبهة النصرة بمسماها الجديد هيئة تحرير الشام، وثمة من يروج لهذا السيناريو، بحجة الخلاص من التشتت والتشرذم الفصائلي، الذي أنتج حالة من الفساد والفلتان الأمني، وجلب الغلاء وغياب الخدمات، وساهم في شيوع الفوضى وانتشار التهريب وتجارة المخدرات، وغيرها من الظواهر التي حولت حياة السوريين في الشمال المحرر إلى جحيم لا يطاق.
اللافت للانتباه أن من يروجون لهذا السيناريو لا يترددون في إظهار الوضع المعيشي في إدلب، وكأنه واحة أمان واستقرار وعيش رغيد.
للتذكير، فقد واجه السوريون بصدورهم العارية وإمكاناتهم المحدودة جميع أشكال الإرهاب، ثاروا ضد إرهاب ميليشيات نظام الأسد، وقاوموا ميليشيات حزب الله اللبناني، والميليشيات التي جلبتها إيران من مشارق الأرض ومغاربها، كما حاربوا ميليشيات ب ك ك بشتى مسمياتها.
قاتل السوريون تنظيم داعش الإرهابي، وهزموه وكسروا شوكته، ولولا تراخي ما يسمى بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، لما بقي له موطئ قدم في سوريا.
وبدل مكافأة من هزم تنظيم داعش الإرهابي ودعمه بجميع وسائل الدعم، تقوم الولايات المتحدة الأميركية بالضغط على فصيل "مغاوير الثورة" لكي ينضموا إلى منظومة "قسد" الانفصالية!.
كما قاوم الثوار السوريون ميليشيات "قسد"، التي تعتبر الجناح السوري لتنظيم PKK الإرهابي، الذي بدوره يقود مشروعا انفصاليا عابرا للحدود، وهزموها في أكثر من جبهة. ولأن الولايات المتحدة اختارته شريكا استراتيجيا فيما يسمى بمحاربة الإرهاب، وبفضل التخادم وتبادل المواقع والمنافع بينها وبين نظام الأسد، تمكنت من السيطرة على مناطق مهمة من شرق الفرات.
وكما رفض السوريون منطق محاربة منظمة إرهابية بواسطة منظمة إرهابية أخرى، برفضهم التعاون مع قسد الإرهابية الانفصالية في محاربة تنظيم داعش الإرهابي، فإنهم يرفضون رفضا قاطعا محاربة قسد الإرهابية بواسطة جبهة النصرة الإرهابية.
ثمة من يريد لملمة الوضع في سوريا، بأي شكل حصل وبأي طريقة كانت، بحجة المحافظة على وحدة سوريا، معتقدين أنه من خلال إبراز ثلاث قوى رئيسية، نظام الأسد وجبهة النصرة وقسد، يمكن الوصول إلى الهدف المنشود، وبذلك تتوحد سوريا، وتحل مشاكلها!. متناسين أن كل واحدة من هذه القوى تمثل نمطا وشكلا من أشكال الإرهاب، فنظام الأسد الذي تسبب في مقتل أكثر من مليون سوري، وتشريد أكثر من نصف الشعب السوري، تحول من دولة إلى مجرد ميليشيات إرهابية تمارس السطو على ممتلكات المواطنين السوريين، حتى في المناطق الخاضعة لسيطرته. كما تشكل جبهة النصرة بمسماها الجديد هيئة تحرير الشام، نموذجا بارزا للإرهاب الدولي العابر للحدود، وهي عصابة تابعة لتنظيم القاعدة، مجهولة غريبة عن سوريا والسوريين، حتى إن رئيسها المسمى "أبو محمد الجولاني"، ربما يكون معروفا لدى الدول وأجهزة الأمن العالمية، لكنه مجهول النسب مجهول الهوية والتاريخ بالنسبة للسوريين.
على شاكلتها من التنظيمات الإرهابية، اتبعت جبهة النصرة تكتيكات تغيير الاسم والاندماج مع مثيلاتها إيدلوجيا. لكن ذلك لم يغير حقيقة كونها فرعا من تنظيم القاعدة
في سوريا، حيث ما زالت تحتضنُ العديد من القياديين والشخصيات الذين كان لهم دورٌ مهم في نشرِ فكر تنظيم القاعدة في منطقة الشرق الأوسط عموما وسوريا والعِراق تحديدا.
وبالرغم من نفيها المتكرر لعلاقتها بالقاعدة، وإصرارها على أنها «كيان مستقل وليست امتدادا لتنظيمات أو فصائل سابقة أو حالية». وبالرغم من أن بعض الفصائل التي اندمجت ضمن كيان الهيئة كانت تتلقى دعمًا من الولايات المتحدة مثلَ حركة نور الدين الزنكي، وتعامل بعض القوى الدولية والإقليمية معها كسلطة أمر واقع، فإن ذلك لم يغير من حقيقة كونها امتدادا لجبهة النصرة المنبثقة عن تنظيم القاعدة، الراغبة في تحويل سوريا إلى إمارة دينية على شاكلة طالبان أفغانستان، وهذا ما يفسر إصرار المؤسسات الدولية على تصنيفها كتنظيم إرهابي عابر للحدود.
ما إن سمع السوريون بعدوان جبهة النصرة / هيئة تحرير الشام على منطقة عفرين، حتى خرجوا في مظاهرات حاشدة، شملت معظم المدن والبلدات في الشمال، منددة بدخول تنظيم القاعدة لمناطقهم، لحكمها والسيطرة عليها، بمساعدة بعض الفصائل التي يتهمونها بتجارة المخدرات، والاغتصابات والاغتيالات، والتي يستخدمها الجولاني واجهة لتحركاته وعدوانه.
فقد خرج الأهالي في مدن اعزاز ومارع وكلجبرين وصوران بريف حلب الشمالي، والباب وجرابلس والغندورة بريف حلب الشرقي، في مظاهرات شعبية حاشدة رافضة لدخول جبهة النصرة / هيئة تحرير الشام إلى مناطقهم التي حرروها بدماء شهدائهم.
يرفض السوريون الجولاني وجبهته وهيئته لأنه مجهول الهوية والتاريخ والأصل والنسب، ويخشون من كونه مندسا يعمل لجهات أجنبية. ويستدلون على قناعاتهم، بأن الجولاني وتنظيم القاعدة لم يحارب نظام الأسد، ولم يحرر شبرا واحدا. إنما انقض على المناطق المحررة، وطعن الثوار في الظهر، وعمل على ضرب فصائل الثوار بعضها ببعض، واستغل جميع الثغرات ونقاط الضعف من أجل إفشال الثورة السورية، من أجل بناء مشروعه على انقاضها.
يدرك السوريون أن استمرار الجولاني ومشروعه المدمر، يعني تحويل سوريا إلى أفغانستان، وساحتها إلى ميدان لتصفية الحسابات بين الدول الإقليمية والدولية.
وأن استمرار الجولاني ومشروعه المدمر، يؤدي إلى تثبيت الوجود الإيراني في سوريا وتعزيزه وتمكينه، ويسهم في نجاح المشروع الإيراني، الذي يعني جلب المزيد الميليشيات الطائفية، لارتكاب المزيد من القتل والتهجير، والمزيد من التغيير الديمغرافي، وهذا يعني المزيد من المعاناة الإنسانية لشعب سوريا.
وأن استمرار الجولاني ومشروعه المدمر، يعطي المشروعية لكل من يريد استباحة سوريا وأرضها وشعبها، بدءاً من الاحتلال الروسي، إلى الاحتلال الإيراني وحزب الله اللبناني، وليس انتهاء بوجود القواعد الأميركية.
المصدر: تلفزيون سوريا