حازم نهار
لعل أهم سمة لأداء القوى السياسية السورية، خلال العقد الماضي، هي الفوضى؛ فقد كانت الممارسة السياسية عمومًا بلا أي قواعد أو معايير أو ضوابط، وهذا كان له أثره في منع حدوث تراكم إيجابي على مستوى التجربة، ما أدى عمليًا إلى الاستمرار في تكرار الأخطاء ذاتها تقريبًا، على مستوى بناء التحالفات والتشكيلات السياسية. تكررت تجارب بناء التحالفات السياسية، لكن لم يصمد أيٌّ منها، وربما يكون "الائتلاف الوطني" التحالف الوحيد الذي صمد، لكن بفضل رعاية الدول واستخدامها وتوظيفها له فحسب، لا بفضل قدراته. لقد تعدّدت محاولات بناء القوى والتشكيلات السياسية وفق آليات بسيطة وسريعة؛ دعوة عدد من الأفراد الذين يمثِّلون حيثيات معينة، ثم إصدار بيان ختامي، والإعلان عن مجموعة قيادية، وخلال مدة قصيرة تظهر الخلافات، ويبدأ خط الانحلال تدريجًا.
كل حقل أو ميدان في الحياة العامة يحتاج إلى قواعد أو معايير أو ضوابط أو آداب أو أخلاقيات عامة يتوافر فيها شيء من الثبات النسبي؛ ففي الطب مثلًا هناك ضوابط ومعايير أخلاقية لممارسة المهن الطبية، وفي المحاماة هناك أصول تنظِّم العلاقة بين المحامي وسلك القضاء، وبين المحامي وموكِّله، وبين المحامين أنفسهم أيضًا، وفي الإعلام يتفق الإعلاميون والصحافيون عادة على ميثاق للعمل الإعلامي، وهكذا. وترتبط عملية التوصل إلى هذه القواعد عادة بالواقع الحاضر وطبيعة البلد ومستوى الوعي العام، لكن هذا لا ينفي وجود شيء من الثبات النسبي فيها، أي وجود مجموعة من القواعد البديهية المتعارف عليها، وهذا لا يمنع إغناءها وتطويرها وتعديلها تبعًا لتغيرات الواقع وحاجات البشر.
ويكتسي هذا الأمر أهمية كبيرة في الحقل السياسي من حيث كونه حقلًا مؤثرًا في حياة المجتمع كله، وفي القطاعات الأخرى، وليس فحسب في حياة جزء محدود من البشر، فضلًا عن كونه الحقل الذي ينتج الدولة قانونيًا وعمليًا، ويُحدِّد ماهيتها ودورها ونظامها وقوانينها وآليات عملها. لذلك، من دون وجود مجموعة من الضوابط أو التقاليد السياسية ستكون الفوضى أساس ومرتكز الحياة السياسية، وستغيب الثقة بين الأطراف السياسية، وستحضر البراغماتية العوراء، وتتحطم كل أنماط التنسيق والتعاون والتحالف بين القوى السياسية، وهذا كله سينعكس على الدولة والمجتمع بصورة سلبية.
من دون توحيد الحقل السياسي على أساس مجموعة من المعايير أو الضوابط لن تكون هناك إمكانية فعلية لإنتاج الدولة أو ستكون الدولة دولةً رخوة تستمد هشاشتها من الحقل السياسي الفوضوي. ليس مهمًا أن تتوحد القوى السياسية تنظيميًا عبر تحالف أو ائتلاف، لكن وحدتها على أساس مجموعة من القواعد والضوابط في السلوك السياسي أمرٌ محوري، وإلا فإنها ستظل تتصارع بلا قواعد متفق عليها تنظِّم عملية التنافس في كل لحظة، وسيؤدي صراعها الفوضوي إلى تشظي الحقل السياسي، ومن ثم ستعجز جميعها عن بناء الدولة المأمولة.
الحقل السياسي السوري اليوم، وطوال السنوات العشر الماضية، هو حقل يعمل على أرض رملية، حيث لا توجد مبادئ عامة تجمع قواه وأطرافه وشخصياته، وهو ينتقل من فشل إلى آخر، ولم تتشكل الثقة بين أطرافه وقواه وشخصياته، ولا ثقة الناس به، ولا بجدوى العمل السياسي، وهذه تربة خصبة لإنتاج العنف والتطرف واستمراريتهما، ومن ثم العجز عن إنتاج الدولة الوطنية الديمقراطية.
يحتاج الحقل السياسي السوري، أولًا وقبل كل شيء، إلى مشروع وطني ديمقراطي سوري يشكِّل وحدته على مستوى الرؤية على الرغم من تنوع قواه سياسيًا وأيديولوجيًا، ويحتاج أيضًا، وبالقدر ذاته، إلى مدونة سلوك أو إلى ضوابط للممارسة السياسية، بعضها مرتبط باللحظة الراهنة ومتطلباتها، وبعضها ذو طبيعة أخلاقية عامة، وبعضها الآخر ذو طبيعة قانونية يصلح لأن يكون في دستور سورية أو في قانون الأحزاب أو القانون الانتخابي مستقبلًا، لكنها جميعها تُشتق من المشروع الوطني الديمقراطي المنسجم مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
مدونة السلوك هي وثيقة تنتجها الأحزاب السياسية بهدف وضع ضوابط ومحدِّدات للممارسة السياسية، وإرساء قواعد للعلاقة في ما بينها، والاتفاق على قواعد مقبولة للعبة السياسية والتنافس السياسي، بما يكفل تحقيق الثقة وتوفير أرضية خصبة للتنسيق والعمل المشترك ووحدة الحقل السياسي والقدرة على إنتاج الدولة، على الرغم من اختلاف القوى في الأيديولوجيات أو البرامج أو الأهداف أو الرؤى. وتكتسب المدونة أهمية أكبر في البلدان التي تمرّ بمراحل انتقالية، تلك التي لم يتم فيها تطوير واختبار سيادة القانون بعد.
كل التحالفات السياسية القائمة في الساحة السياسية السورية هي تحالفات هشة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، وتنبع هشاشتها من عوامل عديدة، أولها هو أن القوى السياسية السورية ذاتها ما زالت هشة، وهي ما دون السياسة والممارسة السياسية، وأقرب إلى التشكيلات القبلية والعصبوية، وأحيانًا تطغى عليها الصفة الهلامية على مستوى الرؤية والتنظيم. وثانيها هو عدم اتفاق هذه القوى على مشروع وطني ديمقراطي واضح المعالم يصبح معيارًا للتقويم وبناء التحالفات. وثالثها تبعية أكثرية هذه التحالفات إلى دول معينة، وتنفيذ سياساتها بدلًا من رسم سياسة وطنية سورية، والسير بهديها. ورابعها عدم اتفاق القوى السياسية على مدونة سلوك سياسي تضع ضوابط ومعايير للعمل السياسي ولعلاقة القوى في ما بينها.
هناك قوى أو شخصيات سياسية سورية يمكن أن تدخل في تحالفات سياسية عديدة متناقضة من دون أن يرفّ لها جفن، ومن دون أن يكترث المتحالفون لهذا الخلل، بحكم سيطرة عقلية التجميع والكسب، بدلًا من الاهتمام بعقلانية التحالف وحقيقته ورؤيته ومبرراته وجدواه وقابليته للاستمرارية. وهناك قوى وشخصيات أخرى يمكن أن تخالف اتفاقًا سياسيًا شاركت فيه أو يمكن أن تعمل ضده، وقوى وشخصيات أخرى تضع نفسها رهن سياسات ومصالح الدول على حساب المصلحة الوطنية السورية، والغريب أن لا أحد يحاسب أحدًا.
لعل أهم النقاط التي ينبغي وضع قواعد وضوابط بشأنها في اللحظة الراهنة هي: الوجود الأجنبي في سورية، العلاقة مع القوى الخارجية، استخدام السلاح في الداخل السوري، العنف والتطرف، الثروة الوطنية، العلاقة بين القوى، خطاب الكراهية والتمييز على أساس الدين أو الطائفة أو القومية، وقضايا أخرى عديدة.
ينبغي أن يكون للقوى السياسية موقف مبدئي ضد الاحتلالات جميعها، وأن ترفضَ أيَّ قوةٍ سياسية تجعلُ من نفسها فرعًا تنظيميًا صريحًا لقوةٍ غير سورية، أو تجعلُ من نفسها مركزًا تنظيميًا صريحًا لفروع غير سورية، وأن تجرِّمَ أيَّ قوةٍ تستعينُ بأيِّ قوةٍ غير سورية استنادًا إلى التماثل الأيديولوجي أو القومي أو الديني، وكذلك أن تدينَ كلَّ قوةٍ سورية تحاول التدخّل في صراعاتٍ غير سورية بإرسال أعضائها إلى أيِّ مكان خارج سورية.
القوى السياسية الحالية ليست قوىً تمثيلية منتخبة أو قوىً حكومية معترفًا بها؛ لذلك أيُّ سلوكات من أيِّ قوةٍ منها لفرض أمرٍ واقع في سورية أو تحوّلها إلى قوة أمرٍ واقعٍ تتصرف بالثروة السورية والأرض السورية كيفما تشاء، أو وضع اليد عليها أو اقتسامها أو عقد اتفاقات خارجية بشأنها، هي سلوكاتٌ مرفوضةٌ جملةً وتفصيلًا. في إمكان القوى السياسية أن تعقدَ اتفاقاتٍ سياسيةً أو ثقافية أو تدريبية في سياق تبادل الخبرات مع قوى غير سورية تشاركُها الرأي، لكن لا يحقُّ لأيِّ قوةٍ سياسية أن تعقدَ أيَّ اتفاقاتٍ، سرية أو علنية، مع الدول أو أي جهاتٍ خارجية تتعلق بالممتلكات الوطنيّة؛ فهذا العمل من حقِّ القوى المنتخبة أو القوى التي تمثِّل الحكومةَ الشرعية الجديدة التي تُؤلَّف استنادًا إلى القواعد الديمقراطية حصرًا.
ينبغي للقوى السياسية أيضًا إدانة أي بيانٍ أو تصريحٍ أو خطابٍ سياسي أو إعلامي يرتكز على التحشيد والتجييش والإقصاء ضدّ أي فئة سورية على أساس إثني أو ديني أو ثقافي أو مهني أو جنسي، وأن تقف بوضوح ضد التطرف بأنماطه كافة، القومية والدينية والمذهبية، وأن تدين كلَّ قوةٍ سياسيةٍ تسعى لفرضِ وجودها أو أيديولوجيتها أو معتقدها بقوة السلاح، وينبغي لها أيضًا اعتماد الحوار سبيلًا لحلِّ المشكلاتِ في ما بينها، ورفض لغة التخوين وخطاب الكراهية، والتزامُ الصدقيّة في تحالفاتها، بعيدًا من البراغماتية العوراء والمصالح الضيقة، الفردية والفئوية.
في الحقيقة، من دون الاتفاق على مجموعة من الضوابط والمعايير، لا قيمة لأي حوار أو اتفاق أو تحالف بين القوى السياسية. من المهم أن تجتمع القوى الحاضرة في المشهد السوري، بصرف النظر عن هشاشتها أو هلاميتها أو أوزانها غير الفاعلة، على مجموعة من المبادئ والثوابت العامة الخاصة بالممارسة السياسية في اللحظة الراهنة، لأن من شأن ذلك أن يبني تدريجًا قواعد العمل السياسي في سورية، ويعطي الحقل السياسي ثباته النسبي وتماسكه، ما يعني التقدم خطوة في طريق بناء الدولة الجديدة.
المصدر: صحيفة "المدن" اللبنانية