أحمد عيشة
تغيّر الثورة الأنظمة أو تغيّر في سلوكها، أما تغيير سلوك البشر فقد يحتاج إلى زمن طويل، يحتاج في تغييره إلى قوانين جديدة وسلطة حازمة وعمل مجهد ومضنٍ على المستويات كافة: السياسية والتربوية والاجتماعية. ومن الواضح أن أهم المشكلات التي تصادفها الثورة في بعض من مراحلها أو حتى بعد انتصارها هي كيفية تأسيس وضبط الحياة الجديدة، الخارجة من نمط سيطرة قديم. في حالة سوريا، التي عانت ولا تزال من سيطرة شبه أبدية من أنظمة القمع والقتل، ومحاربة العقل وتأميم الحياة العامة والخاصة، من الواضح أن ما ورثه السوريون من نظام الأسد من سعي نحو الثروة والزعامة وإقصاء الصوت الحر يحتاج إلى نضالات شاقة وزمن طويل للتخلص منه.
فنظام الأسد لم يتورع عن استخدام أفظع وسائل وآليات رعب البشر بقصد إخضاع السوريين طوال أكثر من خمسة عقود وإدامة سيطرته إلى الأبد، وهو الأمر نفسه الذي دفع السوريين في لحظة ما إلى الانفجار في ربيع عام 2001، هذا الانفجار الكبير الذي كاد أن يودي بسيطرة نظام الأسد لو أنه امتلك قراره واستثمر حالة التعاطف والدعم الدوليين اللذين توفرا في بدايات الثورة. وعلى النقيض من ذلك، عمل النظام على نشر رسائل للعالم تنقل صورا عما تقوم به الأطراف التي تقاتل ضده بهدف تشويه صورة ثورة السوريين، وتقديمها كحركة متطرفة لا تستهدف نظامه القمعي فقط، وإنما مجتمعات الأقليات والمختلفين عنها.
ساعدت الحركات الإسلامية المتطرفة، التي اجتاحت سوريا عنوة وفرخت فيها عدة تنظيمات، كانت في معظمها وبالاً على السوريين، في نشر هذه الصور وتعميقها، كحركات مناهضة للحرية والكرامة التي ينشدها السوريون، ونشرت صوراً مرعبة فكانت كارثة ليس فقط على الأقليات كما ادعى النظام وداعميه والغرب، بل على عموم السوريين وأولهم من ادعوا تمثيلهم أساساً. ولم يقتصر الأمر على تنظيم داعش، وإنما تعدى الأمر إلى كثير من تلك الحركات الإسلامية مثل جبهة النصرة، التي تحولت مؤخراً إلى حركة قمعية ودائرة جباية بهدف إدامة سلطة الجولاني، ولم تكن غيرها من الفصائل ذات المرجعية الإسلامية بعيدة عن أعمال الخطف والاعتقال والاغتيالات، التي ما زالت تتكرر حتى يومنا هذا في مناطق سيطرتها.
بعد انحسار الدعم الدولي للثورة السورية، نتيجة لتدخل بوتين عام 2015 وفرضه بالحديد والنار وقائع جديدة، اقتصر الأمر على قلة من الدول التي تبحث عن نفوذ في سوريا تستغله لترتيب مصالحها عند أية تسوية مقبلة، حيث غدت سوريا مقسمة بين مناطق نفوذ يقوم بحمايتها وكلاء من الداخل، تدعمهم قوى دولية. عند هذا الحد، دخلت الثورة في مرحلة قد تكون من أخطر مراحلها، وهي تفتت جبهة الثورة واستلاب الإرادة، والالتفات نحو المصالح الشخصية بما تعنيه من تكديس ثروة واستثمارات، وبالتالي كنتيجة طبيعية الافتراق عن جمهور الثورة الذي قدّم كثيرًا من التضحيات، وما زال متمسكاً بحلمه بتغيير النظام الأسدي وبناء نظام ديمقراطي تعددي يصون الحقوق والكرامة للجميع.
كانت مناطق الشمال السوري، رغم كل المشكلات التي تعيشها من فقر وبطالة وتدني الدخول، أكثر المناطق حرية ووعداً بأن تنجز شيئاً ما على مستوى سوريا، ففي هذه المناطق وحدها يخرج الناس متظاهرين احتجاجا على سلوك قادة الفصائل، وحتى احتجاجا على الدولة الراعية، تركيا، كما أنها شهدت مولد تجمعات مهنية وسياسية مدنية يمكن أن تكون داعمة وخزانا لقوى الثورة، وحتى للفصائل العسكرية وأيضا للدولة الراعية، لكن هذا مرهون بأن تكون العلاقة بين تلك الأطراف تفاعلية وإيجابية، لا أن تتحول كما نشاهد في الفترة الأخيرة إلى علاقة مواجهة، وهي ما يدعو للخوف ويبشر بمرحلة جديدة من السيطرة، تتجلى في تحويل العلاقة إلى شكل من الإذعان، وبالتالي إلى خسارة الرصيد الشعبي، الداعم القوي لحراك الثورة.
خلال الأشهر الأخيرة، واحتجاجا على الظروف المعيشية والاجتماعية، برزت حركات احتجاجية من أكثر من جهة مدنية، أهمها حركة الأطباء والمعلمين، التي طالبت بتحسين ظروف العمل وتقديم الخدمات بصورة أفضل، فالتعليم يعاني من عدة مشكلات، مثل اكتظاظ الصفوف وتعدد المرجعيات، إضافة إلى الوضع المعيشي، ولا سيما بعد موجة ارتفاع الأسعار الجنونية وحالة التضخم التي تشهدها الليرة التركية المتداولة في تلك المناطق، لكنها لم تلاقِ أي ردٍ إيجابي من السلطات المحلية ومن الدولة الراعية، بل على العكس، كانت رسائل التهديد المبطنة بالفصل من العمل أو الحرمان مما يعرَف بالراتب، الذي لم يعد يكفي لأي أسرة أكثر من أسبوع أو عشرة أيام في أفضل الأحوال. واستهتاراً بتلك الحركة، لم تجر إلى اليوم أي محاولة جادة تتجاوب مع مطالب المعلمين الذين دخل إضرابهم أسبوعه الرابع، وهو ما يترك عبئاً وأثراً اجتماعياً تفتيتياً بين السكان والمعلمين في المنطقة، بدعوى تحميلهم مسؤولية إغلاق المدارس.
والأمر الآخر هو تردي الوضع الأمني نتيجة لتنافس الفصائل في السيطرة على المنطقة وغياب التنسيق ضمن هيئة موحدة، حيث تشهد المنطقة بشكل شبه مستمر نتيجة لذلك حالات الاغتيال لبعض الناشطين والإعلاميين بهدف ترهيب الجميع من كشف الحقيقة، وإجبار أي إعلامي أو ناشط على التفكير ملياً بما سيكتبه، بمعنى خلق رقابة وحاجز رعبٍ أمام صوت وضمير الناس، من دون أن تجد تلك العمليات أي عقاب عادل، أو تنتهي بطريقة بعيدة عن أسس العدالة (المحاكمة العلنية). أما حالات الاعتداء بالضرب والترهيب التي انتشرت أيضاً فلا تبتعد عن هذا الهدف، والتي غالبا ما تنتهي بعملية مصالحة شكلية، بعد عدّها حالة فردية، وتعهد الفصيل أو الجهة المشرفة بمعاقبة المعتدي.
ما هو مطلوب ببساطة، هو فتح المعابر مع الداخل من خلال الحوار والتجاوب مع مطالب الناس كونهم القاعدة الحقيقية للثورة ونبضها
من الطبيعي أن تتغير سياسات الدول تبعا لظروفها ومصالحها، حيث يظهر في الفترة الأخيرة نتيجة لأسباب عديدة بروز ميل دولي لإعادة العلاقات مع نظام الإبادة الأسدي، رغم الحالة المزرية التي يعيشها السوريون الذين لم يحالفهم الحظ بالفرار من مناطق سيطرته، فضلاً عن تحول نظامه إلى نظام صناعة وتهريب المخدرات، إضافة لكونه أسوأ نظام قمعي. لكن الأمر غير المفهوم هو أن تتبع ما يُعرَف بقوى الثورة تلك التغيرات السياسية الدولية من دون حساب لمصالح وآراء السوريين، مبتعدة عن نبض الشارع، تستعيض عن الثورة بالثروة، وتسارع إلى فتح المعابر والتهيئة لمرحلة التفاوض مع النظام، وهو ما يفتح باب المواجهات مع أنصار الثورة في تلك المناطق.
ما هو مطلوب ببساطة، هو فتح المعابر مع الداخل من خلال الحوار والتجاوب مع مطالب الناس كونهم القاعدة الحقيقية للثورة ونبضها، وهو ما يشكل داعماً حقيقياً للجميع، حتى في التفاوض، وهنا أتذكر قول رجل عجوز لأحد القادة في الجيش الحر عام 2013، وهو قول يحكي نبض البشر: "خلوهم يحترموكم، لا تتركوهم يخافوا منكم".
المصدر: تلفزيون سوريا