حسن النيفي
شهد شهر أيلول الفائت وبداية الشهر الجاري حالات متكررة بالاعتداء تارة والتضييق تارة أخرى على النشاط الإعلامي بمختلف أشكاله في الشمال السوري، ونظراً لكثرة وتكرار هذه التجاوزات ستقف هذه المقالة الوجيزة عند ثلاثة منها، وهذا لا يعني - بكل تأكيد - إغفالاً لسواها أو تجاهلاً لما وقع من تجاوزات على جهات إعلامية أخرى.
تمثلت الأولى بالقرار الذي اتخذته حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام ( جبهة النصرة سابقاً) بالمنع التام لأي نشاط إعلامي تابع لقناة وراديو أورينت، في حين تمثلت الثانية في الاعتداء اللفظي والتهديد بالضرب لمراسل قناة حلب اليوم (محمد السباعي) في أثناء تغطيته الإعلامية لإضراب نقابة المعلمين في مدينة الباب، وذلك من جانب عناصر إحدى الفصائل العسكرية، أمّا الثالثة فلعها كانت من العيار الثقيل كونها تجاوزت الشتم والتهديد، وترجمها أحد قياديي فصائل عفرين إلى إهانات جسدية حين استفزّه أن تتجاوز سيارة مراسل تلفزيون سوريا (هادي طاطين) سيارته، فما كان منه إلّا أن يترجّل وينهال بالشتم والإهانة والضرب على الإعلامي هادي طاطين الذي كان يريد ركن سيارته أمام المشفى الذي تتعالج فيه زوجته.
تستدعي الحالة الثالثة في عفرين حالة مماثلة بل متطابقة من حيث الأسباب والدوافع وتختلف من حيث المآلات، وأعني بها الحالة التي أقدم بها (سليمان هلال الأسد – حفيد عم بشار الأسد) على قتل العقيد في جيش النظام (حسان الشيخ من قرية بسنادا بريف اللاذقية)، لا لشيء، سوى لأن سيارة العقيد المقتول كانت أمام سيارة القاتل على دوار الأزهري في مدينة اللاذقية، الأمر الذي أعاق سرعته لدقائق قليلة، فما كان من سليل آل الأسد إلّا أن يترجل من سيارته المرسيدس السوداء ذات الزجاج (المفيّم) و التي تخلو من أي لوحة، مشهراً بندقيته التي أفرغها في صدر العقيد أمام زوجته وولديه.
الصراع أو المواجهة بين الإعلام ومراكز القرار أو السلطات مسألة قديمة جديدة، إلّا أن تلك المواجهة انتظمت في سياقها الصحيح حين أوجد العالم المتحضر مساحة بين طرفي الصراع، تتموضع في تلك المساحة القوانين والأخلاقيات والأعراف المهنية ذات المرجعيات الدولية فيما يخص مهنة الصحافة والإعلام، إلّا أن الحالة التي تواجهنا في الشمال السوري لا يمكن معالجتها من منظور القوانين والنواظم العالمية لمهنة الصحافة، وهو أمر مؤسف حقاً، ولعل مردّ ذلك ببساطة إلى أن نماذج الحوكمة الموجودة في ذلك الحيّز الجغرافي لا ترقى إلى مستوى بناء أو شكل الدولة، إنما هي سلطات أمر واقع تستمدّ مشروعية وجودها من الجهات الخارجية التي ترعاها أولاً، ثم ممّا بحوزتها من قوة تمكّنها من السطوة والسيطرة على الآخرين، ولعل هذا ما جعل دور المؤسسات المدنية سواء القضائية أو الأمنية في تلك المناطق دوراً شكلياً فاقداً لمضمونه أمام سطوة حاملي السلاح، وهذا – بطبيعة الحال – يدفعنا للتأكيد أن الاعتداءات المتكررة على الإعلاميين لا تقتصر فقط في مدن وبلدات الشمال السوري، بل ربما هي أكثر ضراوة سواء في أماكن سيطرة قوات الأسد أو مناطق سيطرة قسد، ولكن ما يجعل الحديث هنا موجهاً إلى سلطات الشمال السوري هو أمور ثلاثة:
أولاً – يقع الشمال السوري تحت نفوذ حكومتين سوريتين، حكومة الإنقاذ التابعة لسلطة الجولاني في إدلب وريفها وقسم من الريف الغربي لمدينة حلب، والحكومة السورية المؤقتة وقوامها العسكري (الجيش الوطني) الذي يسيطر على مناطق اعزاز وعفرين وجرابلس والباب، وكلتا السلطتين تدّعيان ولاءهما للثورة السورية ومواجهة نظام الأسد، كما تدّعيان حماية السوريين والدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم، والجهات الإعلامية التي تعاني من جور هاتين السلطتين هي جهات ذات انتماء سوري ثوري وليست جهات خارجية أو تدّعي الحيادَ حيال الصراع أو المواجهة مع نظام الأسد.
ثانياً – إن القنوات الإعلامية التي اعتُدي على العاملين فيها من جانب هاتين السلطتين (أورينت – حلب اليوم – تلفزيون سوريا) هي قنوات سورية ولاؤها ثوري وطني، بل إن قسماً منها نشأ مع انطلاقة الثورة، وجميعها واكبت سيرورة الثورة بكل التفاصيل حتى بات تاريخها جزءًا من تاريخ الثورة، ربما اختلف كثيرون حول التوجهات الفكرية أو السياسية والجهات الداعمة والسياسات التحريرية لتلك القنوات، إلّا أن ما هو ثابت وجوهري أنها جميعها تدعم ثورة السوريين وتساندها، بل هي القنوات التي تكاد تكون وحيدة في إعطاء الأولوية في عملها للقضية السورية، موازاة مع قنوات أخرى بات الحدث السوري فيها – على الرغم من عظم مأساة السوريين – غائباً أو ذا حضور باهت في غالب الأحيان.
ثالثاً – لعل معظم الإعلاميين والإعلاميات (من مراسلين ومصورين وفنيين وكتّاب)، ممّن يعملون لصالح القنوات المذكورة في مناطق الشمال السوري، إنما ينتمي معظمهم إلى جيل الشباب، بل ربما أكثرهم قد تفتح ونما وعيه في فضاء الثورة خلال عقد من الزمن، وهم إذ يدخلون تلك المناطق لتغطية ما يجري فيها من أحداث ولينقلوا معاناة المواطنين ويقفوا على حاجاتهم الخدمية والأمنية ويكشفوا تجاوزات قوى الأمر الواقع، وذلك في مناخ ساخن مليء بالصراع الفصائلي لا يؤمّن لهم أدنى مقوّمات الحماية، لا شك أنه عمل لا يخلو من مغامرة، فضلاً عما ينطوي عليه من جهد واستعداد لتحمّل المخاطر والعناء، فهل – يا ترى – لو كانوا مسلحين أو ينتمون إلى فصائل عسكرية، سيتم الاعتداء والتنمّر عليهم بالطريقة ذاتها؟ أم لأنهم مجرّدون سوى من أقلامهم وضمائرهم؟
لعله من الصحيح أن مناطق الشمال السوري هي مناطق نزاع وفقاً للتوصيف القانوني، وصحيح أيضاً أن تلك المناطق تحكمها سلطات يغيب عنها الدستور والقانون، وبالتالي تغيب عنها الروادع المهنية أو القانونية التي تحول دون التجاوز على الصحافة والإعلام، ولكن هل بالضرورة أن تكون الوضاعة الأخلاقية هي البديل عن غياب القانون؟ ألم تكن القيم المنبثقة عن الثورات العادلة هي ذات منشأ أخلاقي في جانب كبير منها؟!
المصدر: تلفزيون سوريا