وفاء علوش
ليست المرة الأولى التي تشتعل فيها المدن الإيرانية بالاحتجاجات ضد حكم المرشد وأذرعه البوليسية التي تراقب أدق التفاصيل لدى المواطنين الإيرانيين، لكن هذه المرة بسبب الشابة التي خرجت في رحلة عائلية عادية ثم عادت إلى مسقط رأسها جثة هامدة بعد مدة احتجاز تلتها غيبوبة مدتها ثلاثة أيام، قبل أن تفارق الحياة في المستشفى على إثر ضربة قوية تلقتها على رأسها من عناصر شرطة الإرشاد التي اعتقلتها لمخالفتها تقاليد الحجاب الشرعي في الزي الموحد المفروض منذ قرابة أربعة عقود.
عملياً وعلى الرغم من القبضة الأمنية الشديدة التي تحاول السلطات الإيرانية إحكامها في البلاد لإخضاع المواطنين، لم تكن إيران مستقرة من الناحية السياسية على الدوام فقد عاشت احتجاجات سياسية متلاحقة لأسباب مختلفة، ذلك أنه في عام 2009 كانت انطلاقة الاحتجاجات من طهران ثم انتقلت إلى عدد من المدن الأخرى احتجاجاً على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أعيد فيها انتخاب "محمود أحمدي نجاد" لفترة رئاسية ثانية، مع خسارة "مير حسين موسوي"، واصطلح وقتها على تسمية الحراك بـ"الثورة الخضراء"، خرج وقتها مئات آلاف الإيرانيين مطالبين بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، واعتقل مئات الإصلاحيين آنذاك، وعملت السلطات على تنظيم مظاهرات مؤيدة للنظام عُرفت بأحداث "30 ديسمبر" تمكنت بعدها من السيطرة على الأوضاع.
تلاها في عام 2017 احتجاجات على رفع أسعار المواد الاستهلاكية، ثم بسبب ارتفاع أسعار الوقود والمحروقات في عام 2019، وقد راح ضحيتها عشرات الإيرانيين بينما عجزت السلطة في إيران عن التعامل معها بسهولة وهذا بالضبط الأمر الذي تخشاه اليوم، لذلك نشرت للمرة الأولى الوحدة النسائية (فراجا) بشكل كامل لمواجهة الاحتجاجات المنتشرة في جميع أنحاء البلاد اليوم.
اعترفت السلطات الإيرانية بخصوص الاحتجاجات الأخيرة بمقتل ثلاثة من المحتجين في أثناء المظاهرات التي اندلعت في البلاد منذ قرابة الأسبوع، لكنها نفت في الوقت نفسه مسؤوليتها عن ذلك بالتزامن مع التحذير شديد اللهجة التي أطلقته وزارة المخابرات الإيرانية بأن فعل التظاهر غير قانوني ويستدعي المساءلة القانونية والملاحقة القضائية مستخدمة صيغة تهديد مبطنة، إلا أن تلك التهديدات لم تثنِ المتظاهرين، بل توسعت رقعة الاحتجاج التي بدأت في المدن الواقعة في شمال غربي إيران إلى العاصمة وخمسين مدينة وبلدة أخرى متوزعة جغرافياً في مناطق مختلفة.
وضع أمني أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه مأزوم كشفت عنه وفاة الفتاة الإيرانية من أصل كردي "مهسا أميني"، إذ كشفت عن وجود شرخ عمودي بين الشعب الإيراني وحكومته، كما كشفت في الوقت نفسه عن شرخ اجتماعي أفقي سعت الحكومة إلى تعزيزه، بدعوة المجلس الإسلامي لتنسيق التنمية المكلّف بتنظيم التظاهرات الرسمية في إيران إلى تظاهرات مضادة داعمة للحكومة حيث نقلت وسائل الإعلام صور أعداد حاشدة من المتظاهرين يحملون الأعلام الإيرانية وصور المرشد علي خامنئي.
التصريحات الرسمية التي صدرت من الرئيس الإيراني أو من شرطة الآداب جاءت منسجمة مع الموقف المتعنت والمحافظ الذي يمنح شرطة الأخلاق يداً مطلقة لترهيب المواطنين وإرغامهم على الامتثال للقيم الدينية بحسب زعمهم، غير أنها تؤكد وجود مشكلة حقيقية حاولوا طمسها، خاصة في ظل منع عائلة الضحية من زيارتها أو العمل على تسريب فيديوهات مشكوك في صحتها لتبرئة ساحتهم.
تتغلغل الشرطة الدينية في المجتمعات الإيرانية تحت غطاء الإرشاد والحفاظ على الأخلاق، وتتدخل في تفاصيل الحياة الخاصة للمواطن، وهذا أمر يعاني منه الإيرانيون في مختلف أعمارهم وأجناسهم والنساء على وجه الخصوص، في حين يبقى عناصر الشرطة خارج المحاسبة لأنهم يستمدون سطوتهم وحصانتهم من الدعم الذي يتلقونه من حكومة الولي الفقيه ورجال الدين المتسيدين.
تتعرض مئات من النساء الإيرانيات للعنف على يد شرطة الأخلاق في ظل غياب نظام قضائي عادل يلجأ إليه المتضررون في حال وجود تجاوزات من شرطة الإرشاد، التي تعد من «قوات الباسيج» التي تشكلت مباشرة بعد الثورة الإيرانية وتمتلك سلطات قانونية وبوليسية واسعة وغير مقيدة بحد، كان الغرض من تأسيسها الحفاظ على الزي الإسلامي للنساء، ومراقبة سلوك الإيرانيين في الشوارع والأماكن العامة، وحتى الرجال ينالون حظهم من مراقبة شرطة الإرشاد إذا كانوا يمتلكون على سبيل المثال قصات شعر على النمط الغربي.
حادثة "مهسا أميني" ليست بالطبع الحادثة الوحيدة ففي أبريل/نيسان في عام 2018 انتشر مقطع فيديو لحادثة مشابهة استخدمت فيها السيدة عنصر شرطة الأخلاق الهراوات في ضرب فتاة لأن حجابها لا يغطي كامل شعرها، ولم تكتف بذلك بل استمرت بسحلها وتوجيه اللكمات والضربات لها، في وقت صرح فيه رئيس السلطة القضائية حينها بعدم وجود ضرورة لاعتذار الشرطة عن الحادثة مقراً بأحقيتها في ذلك بدعوى أن من يخطئ لا بد أن ينال الجزاء المناسب حتى لا يتهاون الآخرون بارتكاب الأخطاء فيما بعد.
ما يوحي بوجود اختلاف في الاستراتيجيات في هذه المرة أنه وعلى الرغم من الاحتجاجات المتتالية، فإنه وللمرة الأولى تفرض حكومة الولايات المتحدة عقوبات على ما يسمى شرطة الأخلاق، كما ألغت وكالة CNN مقابلة مع الرئيس الإيراني بسبب اشتراط الأخير أن تضع المذيعة "كريستيان أمانيور" حجاباً على رأسها بدافع الاحترام وفق ما ادعى مساعده، إلا أنها لم تبدُ لفريق العمل سوى أنها استهانة بأرواح النساء الذين يعانون يومياً من جراء التدخل في تفاصيلهم الشخصية.
بين هذا وذاك يقف بعض السوريون اليوم في موقف غير أكيد من الأوضاع في إيران، فهم من ناحية ذاقوا صنوف التعذيب كاملها على يد جنودهم من الحرس الثوري، فتشكلت لديهم رغبة في الانتقام من الإيرانيين بصفة عامة، وفي هذا خلط بين سلوك السلطات الإيرانية ورغبة الشعوب الحقيقية التي غالباً ما تصطدم بقمع مستمر تحت قبضة الهراوات البوليسية وهذا ما تؤكده الأحداث الأخيرة، وقد يفوتهم في ذلك أن الشعب الإيراني بثورته اليوم قد يمنح فرصة نجاة للمنطقة بكاملها أو ربما تكون تلك الاحتجاجات بمنزلة حصان طروادة الذي ينتظره العالم لاقتحام القلعة من الداخل.
المصدر: تلفزيون سوريا