عبد الجبار عكيدي
لقد أفضتْ الأقدار السياسية إلى أن يفقد السوريون حرية اختيار حكّامهم ومسؤوليهم منذ فجر الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة، باستثناء فترات ذهبية نادرة ربما أضحت على هامش التاريخ السياسي لسوريا. ولئن اتّسمت الفترة الممتدة من العام 1946 وحتى العام 1958 بتعدد الانقلابات العسكرية واضطراب الحياة السياسية، فإن السنوات التي تلتها، ثلاث منها في ظل الوحدة السورية المصرية، وثلاث أُخر في ظل الانفصال، لم تفرز سياسات ذات توجه ديمقراطي تتيح للمواطنين هامشاً من الخيارات للتعبير عن الرأي. وربما جاء انقلاب آذار 1963 ليس تكريساً لحالة من الاضطراب والفوضى السياسية، بقدر ما هو تأسيس لنهج شمولي في الحكم، ويمكن القول باختصار شديد: لقد أنتج حكم البعث في سوريا منذ وصوله إلى السلطة وحتى اللحظة الراهنة ثلاث لوثاتٍ سياسية قاتلة، كانت كفيلة بانتشار البؤس واليباس في سوريا:
1 – النهج الشمولي للأيديولوجية القومية، وغياب المسألة الديمقراطية عن الأطروحات النظرية للحزب.
2 – وقوع حزب البعث تحت النفوذ المباشر لسطوة العسكر، وبالتالي سيطرة الضباط على مفاصل السياسة واستبعاد العنصر المدني.
3 – تسلل الطائفية إلى قنوات السياسة، ومن ثم استفحالها وتفرّدها – كمرجعية أساسية – في الحيازة على النفوذ في الدولة والسلطة.
لقد أفرزت تلك المركّبات (اللوثات) الثلاث نموذجاً من نظام الحكم يكاد يخرج عن التصنيفات التقليدية للأنظمة الفاسدة، إذ لا يمكن اختزال توصيف نظام الأسد بمصطلح (استبدادي) فحسب، ذلك أن الاستبداد هو إحدى صفات نظام الأسد، ولعلها الصفة الأقلّ قذارةً إذا ما قورنت بصفات (الإبادة – الاستئصال البشري – القتل تحت التعذيب .....). ولعل استمرار الحكم الأسدي (الأب – الابن) طيلة خمسة عقود متوالية، أدى إلى ظمأٍ مزمن لدى السوريين إلى الحرية والكرامة واحترام آدمية البشر، ولعل انطلاقة ثورة آذار 2011 كانت قد أتاحت الفضاء الأول للسوريين كي يطلقوا صيحاتهم ويعبروا عن رغبتهم في التحرر من كل أشكال الاستبداد، ويتطلعوا إلى إقامة شكل الحكم الذي يعبر عن خياراتهم لا أن يُفرض عليهم فرضاً بالقوة. ولكن يبدو أن ظمأهم المزمن إلى الحرية بات حالة ملازمة حتى ضمن مظلة ثورتهم التي ما تزال هي نافذة الأمل نحو الخلاص بالنسبة إليهم.
ولئن كان تشكيل المجلس الوطني السوري في تشرين الأول 2011 – كأول كيان سياسي قيادي في الثورة – قد اقتضى أن يكتسي مشروعيته من مفهوم (الشرعية الثورية) كما جرت العادة في معظم ثورات العالم، إلّا أن تشكيل الأجسام التي تلته، وأولها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، لم تستمد مشروعيتها لا من شرعية ثورية ولا من إجماع شعبي ولا من شرعية دستورية، وإنما كان تشكيلها تلبية لمصالح دولية خارجية، وليست بالضرورة أن تكون تلك المصالح متماهية مع مصالح الثورة، لم يكن هذا شان الائتلاف فحسب، بل كذلك الأجسام الأخرى (هيئة التفاوض – اللجنة الدستورية) إذ لا يخفى على أحد أن هذه الكيانات جميعها لم يكن للسوريين أي خيار في إنشائها أو اختيار أعضائها، وإنما اختيرت، وكذلك اختير أعضاؤها بناء على توافقات دولية، طالما أن المطلوب من تلك الكيانات هو تأدية دور وظيفي يجسد مصالح الدول التي أسهمت في إنشائها، وليس مطلوباً منها أن تكون لسان حال السوريين والمعبّر عن تطلعاتهم.
بعد مرور أكثر من عشر سنوات على انطلاقة الثورة السورية، وفي ظل المآلات الموجعة للسوريين، وكذلك في ضوء تبدّل وتغيّر معظم السياسات والمواقف الدولية والإقليمية من القضية السورية، حيث تبادل الأصدقاء والأعداء المواقع، ربما بدت حاجة السوريين إلى قيادة للثورة أكثر ضرورةً من ذي قبل، بل ربما جاز لنا القول: كما أن زوال نظام الأسد يعدّ خطوة لا بد منها نحو مشروع التغيير في سوريا، فإن وجود قيادة سوريا للثورة، تنبثق من حراك السوريين وتعبر عن تطلعاتهم وأهدافهم، هي الخطوة الأولى والتي لا بدّ منها لعبور السوريين نحو حل لقضيتهم، هذا في حال كان الحل المنتظر منبثقاً عن إرادة السوريين، أمّا إن كان مفروضاً عليهم من الخارج، فإن ثمة العديد من (الكرزايات الجدد) في المشهد السوري.
وفي الوقت الذي ينتظر فيه السوريون ولادة القيادة الغائبة، أعلنت مؤخراً ثلاث جهات في شمالي سوريا، عن مبادرة موحدة لإصلاح الجيش الوطني، نجم عنها اتفاق يفضي إلى تشكيل مجلس قيادة للمناطق المحررة، يتألف من ثمانية وعشرين شخصاً، بواقع سبعة ممثلين عن كل فيلق، وسبعة أعضاء مستقلين، ويتضمن تشكيل قوة مركزية من الفيالق الثلاث - توحيد المعابر والحواجز وتشكيل إدارة مركزية لها تتبع لمجلس القيادة - تأسيس إدارة اقتصادية مشتركة تقوم على توزيع الموارد وصرفها - تأسيس هيئة رقابة مركزية، بالإضافة إلى مكتب علاقات عامة وهيئة تعنى بذوي الشهداء، ومكتب قانوني.
بالعودة إلى التجارب السابقة والتي كان مصيرها الفشل (الجبهة الإسلامية - مجلس قيادة الثورة السورية - الجبهة الشامية - غرفة عمليات فتح حلب - غرفة عزم)، نجد أن المبادرة الجديدة لا تختلف كثيراً عن التجارب السابقة، ولعل البند الوحيد الجديد هو توحيد الموارد الاقتصادية للفصائل وتوزيعها وفق نسب عادلة، أما باقي البنود فسبق وتم طرحها سابقاً، وأثبتت فشلها، هذا الفشل بالتأكيد كان حاضرا في ذهن القائمين على هذه المبادرة وخاصة أن أغلبهم ممن شارك في المبادرات السابقة، ولكن ربما كانوا يعتقدون أن توحيد الموارد المالية قد يحل شيفرة الفشل المتكرر، واللافت أن كل المبادرات السابقة كانت تصمد لأسابيع وبعضها لأشهر، إلا أن هذه المبادرة لم تصمد لأكثر من يوم واحد، حيث شهد الفيلق الثاني انقساما كبيرا بخروج فرقتي الحمزة والسلطان مراد الأمر الذي يؤكد قصور هذه المبادرة الشديد.
لم يكن مفاجئاً التعثر الذي واجه تنفيذ بنود المبادرة الموحدة، إذ إن الأفكار التي تضمنتها هذه المبادرة، لا تجسّد الحاجات الحقيقية كما يشعر بها الناس في تلك المناطق، وكذلك على الرغم من تجاوزها للنمط التقليدي، إلا أنها لم تتمكن من الخروج من الدائرة المفرغة التي لطالما وجد الجميع أنفسهم فيها عندما يتعلق الأمر بتوحيد أو دمج فصائل الثورة.
من المؤكد أنّ لتعدد الجهات التي شاركت في إقرار هذه المبادرة، وتباين توجهاتهم وارتباطاتها، دوراً في خفض سقف المبادرة، وتقليص للطموحات التي كان يعول عليها، وربما هذه ليست كل الأفكار التي كانت تتضمنها المبادرة قبل أن يتم التوافق عليها أخيرا، والتي اختزلت في النهاية على هدف واحد، هو إنشاء صندوق موحد للموارد الاقتصادية للجيش الوطني.
ما هو مطلوب، مبادرات جريئة وقادة يمتلكون الشجاعة وعلى قدر المسؤولية لاستعادة القرار الوطني، والتخلص من الحالة الفصائلية ومن القادة الفاسدين الذين باتوا جزءاً من المشكلة ومن معاناة الناس، ومأسسة الجيش الوطني وانضواء الفصائل بشكل فعلي تحت قيادة وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة، وأخذ دورها الحقيقي، وصلاحياتها الكاملة بعد رفدها بضباط منشقين مشهود لهم بالوطنية والنزاهة والإخلاص للثورة، يكونون على رأس تشكيلات هذا الجيش. وهذا يتطلب أيضاً وجود نخب تستطيع إنتاج أفكار خلاقة تستطيع الاستجابة لمتطلبات الناس واحتياجاتهم في المناطق المحررة، وتشكيل قيادة سياسية تعبر عن الثوار وتمثل الثورة بشكل حقيقي، تكون بديلاً عن مؤسسات المعارضة التي أثبتت فشلها على مدار أكثر من عشر سنوات.
المصدر: تلفزيون سوريا