حسن النيفي
لعله من الصحيح أن ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها في الثلث الأخير من عام 2010، جسّدت استجابة لتحوّل تاريخي بات حاجةً موجبة التحقق، أي أنها لم تحمل في تضاعيفها إرهاصات لتغيير سياسي في هذا البلد أو ذاك فحسب، بل أفصحت بوضوح عن نزوع عارم لدى شعوب المنطقة نحو الحاجة إلى التغيير الاجتماعي الذي يقارب السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدولة ولا يطول الفئة الحاكمة فقط. ولئن كان ثمة مشتركات كثيرة وأساسية بين الشعوب التي انتفضت على السلطات الحاكمة، كالاستبداد السياسي والهشاشة الاقتصادية وارتفاع منسوب البطالة وانحسار دخل الفرد وشيوع الفقر والتضخم المالي.. ، إلّا أن سيرورة ما تحقق من تلك التحولات كان متفاوتاً بالتأكيد، وذلك بحكم أن كل ثورة هي حدث (تاريخي) لا ينطوي على حتمية التماثل بين نتائج ثورة وأخرى، حتى ولو تماثلت البواعث والأسباب والأهداف، وربما لهذا نجد أن مآلات ثورات الربيع العربي وما أفضت إليه من نتائج تختلف من بلد إلى آخر، ولعل هذا ما جعل الكثيرين يرون أن مجمل ثورات الربيع العربي قد حققت نجاحاتها بالرغم من عدم تحقيق أهدافها كاملة، أي إن قدرة الشعوب على تغيير أنظمة الحكم – باعتبارها الكابح الأول لعملية التغيير – هي شروع في الطريق الصحيح، باعتبار عملية التغيير الاجتماعي هي فعل تراكمي أوسع وأشمل وأعمق من أن تنجزه انتفاضة شعبية في غضون أيام أو أشهر، أو ربما بضعة سنوات. يتّضح مما سبق أن تغيير أو إزاحة السلطة الحاكمة كانت هي نقطة الشروع لدى ثورات الربيع العربي قاطبة، كما يتضح أن تحقيق هذه المهمّة أو تجاوز هذه النقطة كان الهدف الأقرب منالاً، مع التأكيد على التفاوت في قرب هذا المنال، ففي تونس ومصر كان عبور هذه المرحلة أكثر سلاسةً مما عليه الأمر في ليبيا واليمن على سبيل المثال، ولكن في النتيجة استطاعت شعوب تلك البلدان تجاوز العتبة الأولى في مراحل ثوراتها، وبات طريقها مُشرعاً لنضالات مستقبلية لن تتمكّن السلطات الراهنة من مصادرتها.
وحدها الثورة السورية أخفقت في تحقيق تحرير العتبة الأولى نحو التغيير، أي افتقدت القدرة على تغيير نظام الحكم، كخطوة لا بدّ منها للانطلاق في مشروع التغيير، بل يمكن التأكيد على أن مسعى السوريين على مدى أكثر من عقد من الزمن للإطاحة بنظام الأسد قد استهلك مقدّرات الشعب والدولة السورية معاً، ولعل الطاقات البشرية والاقتصادية التي استنزفتها الحرب منذ العام 2011 وحتى الآن، يمكن لها لو أنها وُظّفت في عملية البناء لكانت كفيلة بتحقيق حالة رفيعة من التنمية على كل المستويات، وربما بدا الأمر أكثر كارثيةً حين يدرك الجميع ألّا أحد يستطيع الجزم بنهاية قريبة لهذا الاستنزاف الكارثي الذي يطول السوريين جميعاً دون استثناء.
أكثر من عشر سنوات من الحرب الطاحنة المصحوبة بشتى أنواع البؤس هي كلفةٌ يدفعها السوريون ليس ثمناً لبناء مستقبلهم ونهضة بلدهم، إذ أنهم لم يشرعوا في البناء بعدُ، بل هي فقط ثمن التعبير عن رغبتهم في المطالبة بحقوقهم المشروعة في الحرية والبناء والتغيير، إذ إن هذه الرغبة كانت وما تزال هي المُستهدفة من جانب السلطة الأسدية التي ترى – ومنذ انطلاق الثورة – أن مجرّد الاستجابة لبعضٍ مما يرغب به السوريون سيكون بمثابة البحصة التي بزوالها سينهار بنيان هائل من الرمال.
لا جديد في تكرار الحديث عن خصوصية الحالة السورية دون سواها من بلدان الربيع العربي، وذلك من جهة طبيعة نظام الحكم وماهيّته المركّبة من تداخل أشكال شتى للاستبداد – سياسي طائفي – جعلته خارج التوصيفات التقليدية لأنظمة الحكم الفاسدة، وحوّلته إلى طغمة متوحّشة لا ترى سبيلاً لبقائها واستمرارها سوى في ممارسة الإبادة واستئصال الآخرين، ولكن الجديد واللافت في الأمر في آن معاً، أن هذه الحقيقة الصادمة، وأعني إصرار السلطة على الأبدية في البقاء وكذلك إصرارها على الإبادة في الممارسة، لم يكن لها الأثر الواضح في تغيير أو تبدّل تفكير الأطراف المعارضة للسلطة، لا على مستوى التصورات والرؤى ولا على مستوى الخطاب، فالمقولات التي أطلقتها المعارضات السورية وتسمّرت أمامها منذ بداية الثورة ما تزال كما هي محافظةً على رصانتها ولمعانها لكن بلا روح أو فاعلية، ولعل من أبرز تلك المقولات هي أن الثورة لا تهدف إلى إسقاط النظام أو تغييره فحسب، بل تهدف إلى التغيير الشامل، بما في ذلك مستقبل الدولة السورية، ولا اعتراض على ما تنطوي عليه تلك المقولة الرصينة التي تكمن رصانتها الجوهرية في طبيعة التعامل معها واستيعابها ضمن سياقاتها المرحلية وتقسيمها إلى ما هو مهم، وما هو أكثر أهمية، وإلى ما هو واجب المبادرة ولا يحتمل التأجيل وما يمكن إرجاؤه، إلّا أن واقع الحال يؤكّد أن التعاطي النخبوي مع تلك المقولة وأمثالها بات أقرب إلى النمطية منه إلى الفهم، وذلك من خلال تحوّله من فكرة تستوجب التفكير بحيوية دائمة والنظر من زوايا مختلفة، إلى شعار يسهل ترداده ومن ثم تجاوزه بسهولة.
ربما تلاشى سريعاً وهْمُ الكثيرين ممن كانوا يتوقعون سقوط نظام الأسد سريعاً كما حدث في بلدان عربية أخرى، وربما استسلمت قناعة الكثيرين – مع استحكام النفوذ الدولي في القضية السورية – إلى يقين راكن بأن زوال النظام أو بقاءه مرهون بالإرادات الدولية ولا جدوى من التفكير به أو العمل عليه، ومن الأجدى في هذه الحال أن تُكرّس الجهود وتُشحذ العقول للبحث والتفكير في مستقبل الدولة السورية بعد زوال النظام، ومنذ عشر سنوات والنخب السورية لا تفتأ تتطاحن وتتهاوش بكل الأسلحة والأدوات الإيديولوجية وتتقاذف بجميع الشعارات المذهبية ،وتتناحر بجميع النعرات القومية، متوخّيةً أن تلاطم هذه الأسلحة والأدوات التي أنتجها التفكير المنبثق عن الإيديولوجيات الرائجة في عشرينيات القرن الماضي قد يفضي إلى إنتاج مفاهيم جديدة للدولة السورية الحديثة، دولة ما بعد الأسد، ولعل شدّة الاحتراب بين الأطراف المتنابذة قد توهم أحياناً بأن نظام الأسد قد زال أو أوشك على الزوال ولم يبق أمام تلك الجماعات سوى الاستعجال في فرض كل طرف لرؤاه ومعتقداته وبدائله التي يرى أن سوريا لن تنهض من الخراب بدونها.
ولئن اقتضى المنطق المتوازن التأكيد على تلازم استحقاقين أمام السوريين، يتمثل الأول بزوال النظام، ويتجه الثاني للتفكير بما بعد زواله، فإن مواجهة الاستحقاق الأول غالباً ما يتم مواجهتها بسهولة وسرعة فائقة، إذ يكفي البعض تكرار التأكيد على ضرورة تطبيق القرارات الأممية، وانتهت المواجهة، علماً أنه الاستحقاق الأشد وعورةً، أمّا الاستحقاق الثاني ففيه فسحات واسعة لتلك الجماعات كي تمارس المزيد من استفراغاتها العقدية، دون أن تفطن وهي في غمرة عنفوانها الرغائبي إلى عشر سنوات انقضت، وتغيرت خلالها العديد من السياسات الدولية والإقليمية، كما وتبادل الأصدقاء والأعداء المواقع، فلا المجتمع الدولي أزاح نظام الأسد، ولا ثمة قوة ألزمته بتطبيق القرارات الدولية، ولا الجماعات المعارضة ذاتها اتفقت على رسم ملامح سوريا المتخيلة.
المصدر: تلفزيون سوريا