جاسم الشمري
لم يكن العراق يَعرف قضية الميليشيات بشكل واضح خلال الفترة السابقة للاحتلال الأميركي في العام 2003.
وقد تطرق (دستور العراق) للعام 2005 إلى التركيبة الأمنية في الدولة العراقية، وقد بينت المادة (٩) أولا (ب) بأن القوات المسلحة العراقية تتكون من مكونات الشعب، وركزت على: "يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة"!
وخلال تلك السنوات كانت هنالك مليشيات غير رسمية وفاعلة، ولكن بعد سقوط مدينة الموصل وثلث العراق تقريبا، بداية حزيران/ يونيو 2014، بيد داعش في مرحلة غامضة برزت بانهيار (الجيش النظامي) خلال ساعات أمام بضع مئات من مقاتلي داعش!
وما زالت بعض الأطراف السياسية تحاول محاسبة حكومة نوري المالكي السابقة حول مجريات الأحداث حينذاك، وكيف هُزم الجيش الرسمي يومها!
وفي محاولة للملمة الانهيار العسكري والأمني وقتها، لاحظنا وخلال ساعات معدودة تدخلا كبيرا وسريعا من قبل مرجعية النجف المتمثلة بمكتب المرجع الديني علي السيستاني وبقية المراجع (الشيعية) الكبرى!
وفي خطبة الجمعة، 13 حزيران/ يونيو 2014، بمدينة كربلاء، والتي ألقاها عبد المهدي الكربلائي، ممثل السيستاني أعلنت فتوى الجهاد الكفائي بحجة "حماية المقدسات"!
وخلال ساعات بدأت الترتيبات الإدارية المدنية والعسكرية والدينية لتنظيم تشكيل الحشد الشعبي!
وقد شارك الحشد في غالبية المعارك ضد داعش، ولكن القضية الخطيرة أن مجلس النواب أقرّ بتاريخ 26/11/2016 قانون "هيئة الحشد الشعبي" بالرغم من مقاطعة نواب تحالف القوى العراقية (السنّي)، الذي عَدّ إقرار القانون (نسفا للشراكة الوطنية)!
وخالف هذا القانون وبشكل صريح الدستور وفقا للمادة التاسعة المذكورة أعلاه، ولكن مع ذلك مُرّر القرار وسط خلاف بين الكتل السياسية على فقرات تتعلق بالتوازن وتوزيع النسب بين مكونات الشعب، وألا تتجاوز أعدادهم مئة ألف مقاتل!
ونص القانون على أن" قوات الحشد ستكون قوة رديفة إلى جانب القوات المسلحة العراقية وترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة"، وهو رئيس الحكومة بموجب الدستور!
ولكن، وبمرور الزمن، صار الحشد القوة الأمنية الأولى في البلاد، وبقيت قوى الحشد تأتمر بأوامر قادتها الفرعيين ولا علاقة لهم برئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة، إلا بالاسم والتخصيصات المالية الضخمة فقط!
وبعيدا عن الخوض فيما قام به كثير من عناصر الحشد من سلبيات قاتلة ودموية ومالية يحاسب عليها القانون سنتكلم عن علاقة الحشد بالأزمة الأخيرة، والمستمرة منذ نهاية الانتخابات البرلمانية في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وحتى الآن.
ويبدو أن أصل الخلاف في العراق هو خلاف سياسي ولهذا يفترض بالحشد عدم التدخل فيه ولكن، ولكون قيادات الحشد تمتلك نفوذا سياسيا صرنا أمام خلافات سياسية مستندة إلى السلاح، أي أن الحوار ليس سياسيا فقط وإنما هي حوارات سياسية يمكن أن تكون بلغة السلاح أيضا وهذا بالضبط ما شاهدناه ببغداد وبعض مدن الجنوب نهاية الشهر آب/ أغسطس الماضي.
ويبدو أن الخلاف بدأ بصورة تدريجية وعلنية بين زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وما بات يعرف باسم الإطار التنسيقي برئاسة المالكي.
وكان الخلاف، كما ذكرنا، في بدايته سياسية لكن تحول بمرور الزمن إلى تهديدات عسكرية، وبالذات ونحن نتحدث عن أطراف تمتلك قدرات عسكرية هائلة، حيث إن الصدر يمتلك العديد من الأجنحة المسلحة ومن أبرزها جيش المهدي المجمد عن العمل حاليا، وسرايا السلام ولواء اليوم الموعود، وبالمقابل يمتلك الإطار التنسيقي العديد من الألوية التابعة للحشد والتي يتحكم بها قادتها وفي مقدمتهم المالكي، وهادي العامري زعيم منظمة بدر، وقيس الخزعلي، أمين عام عصائب أهل الحق وغيرهم.
وقد تنامت الخلافات بين الفريقين بسبب شكل الحكومة القادمة ومن يُسيطر عليها، وبعد الفشل البرلماني والميداني في حسم الخلافات وجدنا أن الصدر ترك الميدان السياسي، بعد أن طلب من نوابه الاستقالة الجماعية، 73 نائبا، وتحول إلى الميدان الشعبي، واستخدم الجماهير للضغط السياسي وهذا ما نلمسه في كل يوم تقريبا!
ورغم الصدر أنه قد أعلن بداية الشهر الحالي الاعتزال النهائي من السياسة لكنه عاد مجددا وعبر حسابه الرسمي في تويتر للحديث عن الخراب القائم في العراق، وحقيقة لا أحد يعرف ماذا يريد الصدر!
وهذا الاستغراب ليس داخليا فقط، وقد سبق لمجلة "ناشيونال انترست" الأميركية أن تساءلت، في 30/ آب/ أغسطس، هذا السؤال العميق: ماذا يريد مقتدى الصدر حقا في العراق؟
وأفادت المجلة في تقريرها، بأن الصدر "صوّر نفسه كمدافع حقيقي عن السيادة العراقية، وقد استخدم تكتيكات المافيا لابتزاز الأموال وتقييد الأسواق، وحشد العصابات لتخويف المنافسين. كما وجدت شعبويته أرضًا خصبة في الأحياء الفقيرة ببغداد. في مثل هذه الحالة، يصبح الصدر أكثر خطورة، ومن الخطير كذلك أن يعتقد البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية أن بإمكانهم توجيه الصدر أو السيطرة عليه"!
وقد بقيت هذه المناحرات بين قوى اللا دولة بشكل واضح ومؤثر على المشهدين السياسي والأمني والثقافي والاجتماعي،
وقد بلغ الأمر ذروته نهاية آب/ أغسطس، وبداية أيلول/ سبتمبر 2022 حينما وقعت مواجهات دموية بين طرفي النزاع في الحشد، الصدر والمالكي، وكانت الحصيلة أكثر من 25 قتيلا ببغداد والبصرة ومئات الجرحى!
والتخوف من الاقتتال ليس داخليا فقط، ولهذا وجدنا أن إيران متخوفة من اقتتال (شيعي – شيعي) في العراق، وهذا ما أشار إليه تقرير صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، يوم 23 آب/ أغسطس 2022، والذي أكد "تراجع النفوذ الإيراني، وأن الفصائل الشيعية تنقسم انقساما عميقا وأن الاشتباكات المسلحة بين الفصائل الشيعية العراقية المدججة بالسلاح ستكون واحدة من أسوأ النتائج المحتملة لطهران"!
والظاهر أن الحشد الشعبي دولة قوية داخل دولة رسمية هشة، وقد وجدنا أن تصريحات غالبية زعماء الحشد تؤكد بأنهم هم الدولة، وآخرها تصريح القيادي الحشدي (أبو تراب التميمي) الذي قال: "نحن الدولة، الحشد تأسس وبُني بالدماء ولن يُحل إلاّ بالدماء والرواتب مؤمنة.. والحشد هو الدولة"!
ومع هذا الغموض، والفوضى في الصلاحيات والعلاقات والمنافسات الشخصية والحزبية هل سنشهد مواجهات ومنافسات قاسية مرة أخرى ببغداد ومدن الجنوب أم أن الأمر بات تحت السيطرة وأن التنافس والتزاحم سيسيُطر عليه من القوى الفاعلة داخل العراق ومن وراء الحدود، والأهم من ذلك هل هذه المنافسات السياسية والمسلحة لمصلحة العراق أم لتنفيذ أجندات خارجية؟
أعتقد أن الفوضى كانت بدايتها دستورية وذلك بمخالفة الدستور والدعوة لتشكيل قوات غير نظامية، ثم بعد ذلك استمرار الدعم الديني المتمثل بمرجعية النجف لفعاليات الحشد الشعبي، وكذلك التداخل السياسي والعسكري في العراق كل هذه الجوانب تجعلنا نجزم أن الخلافات لن تتوقف وأنها مرجحة للتصاعد، وربما للدماء مرة أخرى!
ويفترض، ومع هذا التداخل والتناحر، إعادة تنظيم السلطات والصلاحيات بين القوى الرسمية، وإلا فلا يمكن لأي قائد عام للقوات المسلحة العراقية أن يضبط الأمن طالما هنالك أوامر فرعية تطغى على الأوامر الأصلية!
إن الأمن التام والصحيح يُبنى باحترام المؤسسة العسكرية والأمنية والاستخبارية، فمتى نصل إلى هذه المرحلة أم أن ما يجري مؤامرة مدرسة لسحق هيبة العراق وسحق المواطنين الأبرياء على يد القوى غير الرسمية والتي لا يردعها دين أو ضمير أو قانون؟
المصدر: تلفزيون سوريا