محمود علوش
طوت تركيا وإسرائيل صفحة أربع سنوات من القطيعة الدبلوماسية بينهما، واتفقتا أخيرا على إعادة تبادل السفراء. تنحية أنقرة وتل أبيب مُجدداً خلافاتهما، والتركيز بدلاً من ذلك على المصالح المتداخلة بينهما هي الجانب الوحيد الأكثر مرونة الذي ميّز علاقاتهما في العقدين الأخيرين. لكنّ الجانب المعاكس والأكثر تأثيراً على ديناميكية العلاقة أنها أصبحت، في العقد الأخير تحديداً، أقل قدرة على التكيف مع الاستقرار، وأكثر قدرة على التعايش مع الأزمات. تفسّر ذلك الحماسة الضعيفة نسبياً التي قوبلت بها المصالحة الجديدة لدى صنّاع القرار في أنقرة وتل أبيب. كان تأكيد وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو على الفور أن عودة السفراء لن تؤثر على دعم تركيا الثابت للقضية الفلسطينية بمثابة إقرار تركي ضمني بأنّ المصالحة قد لا تستقرّ طويلاً إذا لم تُغير إسرائيل نهجها تجاه الفلسطينيين. وبالمثل، يعكس تمهّل تل أبيب نحو نصف عام في الرد على الانفتاح التركي عليها بإعادة السفراء شكوكها العميقة في دوافع الانعطافة التركية وجدّيتها. يعتقد معظم السياسيين الإسرائيليين أنّ هذا التحوّل تكتيكي ومرتبط بدرجة رئيسية بمساعي الرئيس أردوغان لتوفير ظروف خارجية مناسبة تُساعده في تحسين الوضع الاقتصادي وتعزيز فرص إعادة فوزه في الانتخابات المقبلة.
مع ذلك، جاء النهج التركي الجديد مع إسرائيل في خضم إعادة تموضع أوسع في علاقات أنقرة الإقليمية والخارجية، على عكس المصالحات الأخرى التي أبرمتها أنقرة وتل أبيب، هو ما يجعل المصالحة الحالية أكثر قابلية للاستمرار. على عكس السنوات الماضية التي ارتبطت فيها الخلافات التركية الإسرائيلية بالاستقطاب الإقليمي الحادّ الذي شهدته المنطقة بعد الربيع العربي ودعم تركيا صعود تيار الإسلام السياسي، فإن هذا الاستقطاب تراجع على نحو كبير.
ويُمكن قراءة التحوّلات التي طرأت في العامين الأخيرين على علاقات أنقرة بالقوى الإقليمية المؤثرة، كالإمارات والسعودية ومصر، على أنها ساعدت في تهيئة الظروف الإقليمية المناسبة للمصالحة. يُضاف إلى ذلك أن الصراع الذي تأجّج في شرق البحر الأبيض المتوسط خلال الأعوام الأخيرة، وعقّد الأزمة التركية الإسرائيلية، يسلك مساراً هادئاً منذ فترة. بمعنى آخر، أدّى تخلي التكتل الإقليمي الذي نشأ ضد تركيا في شرق البحر المتوسط عن نهج عزلها إلى تحفيز أنقرة على الانفتاح على إسرائيل. كما أن التحوّلات الكبيرة التي طرأت على سوق الطاقة العالمي بعد الحرب الروسية الأوكرانية ومساعي أوروبا إلى إيجاد بدائل للغاز الروسي شجّعت أنقرة وتل أبيب على التركيز على فوائد التعاون المحتمل في مجال الطاقة.
على صعيد آخر، يبرز اليوم العامل الإيراني المؤثر في العلاقة التركية الإسرائيلية قوة دافعة لإحداث استقرارٍ طويل الأمد في العلاقة الجديدة بين أنقرة وتل أبيب. لدى البلدين هواجس مشتركة إزاء الدور الإقليمي الإيراني. من الملاحظ أنه، على الرغم من العلاقات المتوترة بين أنقرة وتل أبيب، استمر الجانبان في الحفاظ على قنوات التواصل بينهما على الصعيدين الأمني والاستخباراتي. وقد برز ذلك بوضوح في التعاون بينهما أخيراً في إحباط خطط إيرانية مزعومة لاستهداف إسرائيليين في تركيا. علاوة على ذلك، تكتسب المصالحة الحالية أهمية كبيرة لإسرائيل أكثر من أي وقت مضى. بالإضافة إلى الثقل الإقليمي الذي اكتسبته أنقرة خلال العقد الماضي، من شأن العلاقة المستقرّة مع أنقرة أن تُساعد تل أبيب في التعامل بشكل أفضل مع التحدّيات الإقليمية التي تواجهها، والتي ستتصاعد مع تزايد احتمال إبرام صفقة نووية جديدة بين إيران والغرب. قد تتطلع إلى تنسيقٍ مع أنقرة في احتواء النفوذ الإيراني في كل من سورية والعراق، حيث تلعب تركيا دوراً فعالاً في كلا البلدين. كما أنّ العلاقة الجديدة بين تركيا وإسرائيل ستجعل العلاقات التركية الإيرانية أقلّ قدرة على الاستقرار، ما يشكّل دافعاً قوياً لتل أبيب لتعزيز المسار الجديد مع أنقرة.
في حين أنّ المصالحات التي أبرمها البلدان خلال العقد الماضي لم تصمد بفعل أسباب عديدة، في مقدمتها الموقف من القضية الفلسطينية والصراع الإقليمي الحادّ على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة، فإن المصالحة الجديدة تأتي في ظل ظروف إقليمية أكثر استقراراً. حقيقة أن تركيا وجدت نفسها أمام خطر التهميش في نظام إقليمي جديد، أفرزته العلاقات الإسرائيلية العربية المتنامية، شكلت دافعاً قوياً لها لإحداث انعطافة في علاقاتها مع خصومها الإقليميين السابقين، بمن فيهم إسرائيل، لضمان دور إقليمي مؤثر لها. على صعيد آخر، كانت الخلافات التركية الإسرائيلية أحد نقاط الضعف التي تسبّبت في تدهور العلاقات بين أنقرة وواشنطن. بهذا المعنى، ينظر الأتراك إلى إصلاح العلاقة مع تل أبيب وسيلة لتقوية موقفهم في واشنطن.
مع ذلك، لا تقلل هذه الفوائد العديدة المتبادلة للبلدين من تأثير نقاط الضعف التي ستظل قائمة في المدى المنظور. في ظل الأهمية الضئيلة للغاية التي توليها إسرائيل لتحقيق تقدّم في عملية السلام مع الفلسطينيين، فإن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مرشّح لمزيد من التوتر في الفترة المقبلة. سيكون من الصعب على أنقرة وتل أبيب تحصين العلاقة الجديدة من ارتدادات القضية الفلسطينية. علاوة على ذلك، يشكل الاستقطاب السياسي الإسرائيلي الحاد واحتمال عودة اليمين المتطرّف إلى الإمساك بزمام السلطة في إسرائيل في الانتخابات المقبلة تحدّياً كبيراً للمصالحة الحالية. لقد ساعد خروج نتنياهو من السلطة في تحفيز أردوغان على تحسين العلاقات مع تل أبيب، لكنّ عودته المحتملة إلى السلطة قد تعكس الاتجاه من جديد. لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت تركيا وإسرائيل تمتلكان رؤية واضحة لكيفية عزل أي تقلباتٍ محيطةٍ بالعلاقات على المصالحة، لكنّ المؤكّد أنهما سعتا إلى الاستفادة بأقصى قدر ممكن من الظروف الحالية لإنهاء القطيعة.
أخيراً، تبدو فرص استقرار المصالحة بين تركيا وإسرائيل مرهونة بحجم الفوائد المتبادلة التي يتطلع إليها الجانبان. بالنسبة لإسرائيل، يعدّ مُجرد تحويل تركيا من خصم إلى صديق مكسباً استراتيجياً لها في كسب مزيد من النفوذ في العالم الإسلامي. على العكس من ذلك، تتطلع أنقرة إلى فوائد ملموسة من المصالحة على أكثر من صعيد. يحتل التعاون في مجال الطاقة أولوية تركية في الوقت الراهن، لكن الحسابات الإسرائيلية بهذا الخصوص لا ترتبط فحسب بطبيعة العلاقة مع تركيا، بل أيضاً بالشراكات التي عزّزتها في السنوات الأخيرة مع كلّ من اليونان وقبرص الجنوبية. لذلك تبدو إمكانية تعاون تركي إسرائيلي في مجال الطاقة مرهونة أيضاً بإحداث خرق مستبعد في خلافات تركيا المزمنة مع أثينا ونيقوسيا. انطلاقاً مما سبق، رغبة أنقرة وتل أبيب في إحداث استقرار طويل الأمد في المصالحة الجديدة غير كافية وحدها من دون معالجة كلّ الجوانب الرئيسية المحيطة بالعلاقة.
المصدر: العربي الجديد