أحمد مظهر سعدو
ينوس الوضع السوري بين احتمالات عدة، لعل أبرزها وأكثرها رجحانًا واقعيًا اليوم هو الاستمرار في الوضع الآني والمؤقت، حيث لا حل سياسيًا، ولا تقدم في أي مسار تفاوضي، فمسار جنيف أصبح معطلًا منذ سنوات عديدة بفعل فاعل، ومسار أستانا يلفه البؤس وعدم الجدوى، وحرص الروس على إعادة إنتاج النظام السوري، والاستمرار في قضم المزيد من الأراضي لصالح النظام، ناهيك عن اللجنة الدستورية التي أصبحت مع كل حصيلتها الصفرية، في خبر كان، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا والتوتر والتصادم المستمر بين الروس والغرب عمومًا.
لكن تصريحات السيد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الأخيرة بما يخص المصالحة مع النظام السوري وإمكانية الاشتغال التركي عليها توفيقًا بين المعارضة والنظام، أعادت الحرارة للمسألة السورية برمتها، وأشعلت الثوار في الداخل والخارج السوري، وطرحت العديد من التساؤلات الموضوعية والذاتية، وحركت الساكن في المسألة السورية، وأعادت حالة الحراك الشعبي السوري إلى سنوات مضت لكنها كما بدا لم تنقض بعد.
لايبدو أن هذه التصريحات التركية قد جاءت عفو الخاطر، ولا أتت من فراغ، ولا هي زلة لسان، بقدر ماهي انزياحات نسبية في السياسة التركية
فما تأثيرات التصريح التركي الأخير على الوضع السوري؟ وما هي مبرراته وضروراته لدى الأتراك؟ أسئلة جدية نحاول الإمساك بها تهيئة لفهم الواقع والمستقبل المقبل، ضمن تفاعلات القضية السورية، واحتمالات التغير في مساراتها الآنية والمستقبلية.
إذ لا يبدو أن هذه التصريحات التركية قد جاءت عفو الخاطر، ولا أتت من فراغ، ولا هي زلة لسان، بقدر ما هي انزياحات نسبية في السياسة التركية ضمن حالة الاصطفاف الحقيقي إلى جانب الثورة السورية والشعب السوري المنتفض، وليست خارج هذا السياق، ولم تكن تراجعًا عن مواقف الدعم التركي للسوريين المعروفة منذ بدايات ثورة الحرية والكرامة عام 2011.
للدولة التركية مصالحها الإقليمية والداخلية، حيث ينتظرها استحقاق انتخابي برلماني ورئاسي في السنة القادمة، وسط تخوفات استقرائية كثيرة، وسط خشية الحكومة من إمكانية إحراز المعارضة أي تقدم ما في مواجهة حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ ما يقرب العشرين عامًا. وهذه مسألة كبرى تشغل بال وتحركات الحكومة التركية وتلقي بظلالها الواضحة على جل القرارات والتحركات والتصريحات التركية وكل الانعطافات والاتفاقات الجديدة التي تجوب بها الدولة التركية كل الدول الإقليمية، وما هو أبعد من الإقليمية في محاولة واضحة لإعادة الاعتبار للأوضاع الاقتصادية الداخلية، ودعم الليرة التركية التي تراجعت بشكل كبير ولافت، وهو ما يخشى أن يترك أثره السلبي على الصندوق الانتخابي في تموز/يوليو المقبل، لذلك فإن التحركات التركية المتسارعة كلها، تبغي الوصول إلى بر الأمان في انتخابات رئاسية وبرلمانية تعيد الاعتبار داخليًا إلى الحكومة وحزب العدالة والتنمية، وتُنتج انبثاقات جديدة تنعكس إيجابًا على الواقع المعيشي في تركيا، والذي أضحى هو الهم الأساسي للأتراك بشكل عام، أمام تحركات دؤوبة للمعارضة التركية، همها الأساس تشويه سمعة الحكومة، والعمل على تحريك نقطة ضعف في الواقع التركي وهي مسألة اللاجئين السوريين وضرورة إعادتهم إلى وطنهم.
ويبدو أن فكرة العودة الطوعية لنحو مليون سوري إلى الداخل التي أعلن عنها منذ أشهر عدة، قد جاءت وفق هذه الاعتبارات، وكذلك حال التصريح الأخير لوزير الخارجية، وقبله تصريح وزيرة الأسرة التي قالت بأن عام 2023 لن يمضي إلا وقد عاد كل اللاجئين السوريين إلى أوطانهم. وقد أتت التفاهمات الأخيرة بين تركيا وروسيا على هذا المنوال.
إذا كان للأتراك مصالحهم ألا يوجد للسوريين مصالحهم الأخرى التي قد لا تتقاطع مع مصالح الدول حتى لو كانت صديقة وحليفة؟
لكن كل ذلك مازال يحمل في داخله العديد من التساؤلات الحقيقية لدى السوريين الذين هبوا لرفض أية مصالحة مع نظام قاتل ومجرم، هجر نصف الشعب السوري، وقتل ما ينوف على مليون سوري، وأدخل المعتقلات أكثر من 950 ألف إنسان موثقين، وهدم البنية التحتية لأكثر من 65 في المئة من العمارة السورية، وفتت المجتمع السوري، وألقى به في اليم، لايلوي على شيء. ومن أهم هذه التساؤلات المشروعة:
هل يمكن لتركيا اليوم وبعد كل هذا الدعم الإنساني والسياسي أن تتخلى عن السوريين، ومن ثم تجبرهم على مصالحة غير عادلة مع نظام الكيماوي في دمشق؟ وضمن أية أسس يمكن القبول بمصالحة مع نظام لم يتقدم خطوة واحدة في مسار اللجنة الدستورية عبر ثماني جولات متتابعة؟.
وإذا كان للدولة التركية مصالحها الموضوعية الاقتصادية والسياسية والانتخابية وتخوفاتها الأمنية القومية، من إرهاب ال ب ك ك المشروعة، أليس للشعب السوري مصالحه الأخرى في الوصول إلى دولة سيادة القانون والمواطنة العادلة، وكنس المجرم الذي ضحى الشعب السوري بكل شيء من أجل إنهاء استبداده وطغيانه؟ بمعنى آخر إذا كان للأتراك مصالحهم ألا يوجد للسوريين مصالحهم الأخرى التي قد لا تتقاطع مع مصالح الدول حتى لو كانت صديقة وحليفة؟
ثم هل من العدل التوجه إلى نظام سوري يرفض كل عملية الانتقال السياسي ويصر على استمرار الحل العسكري الأمني، واستمرار المقتلة الأسدية بحق الشعب السوري؟ هل يمكن أن نتوجه إليه وندفعه نحو التصالح في وقت ليس فيه من مؤشرات أمام الدول ولا أمام السوريين من تحريك للمياه الراكدة، في ظل الدعم الإيراني والروسي الكبيرين لهذا النظام؟.
وهل يمكن للاتحاد الروسي كدولة ضامنة ضمن مسار أستانا أن تفرض على هذا النظام الولوج في حل سياسي حقيقي يعطي الأمل للسوريين في احتمالية قيام دولة آمنة ويسودها العدل، في وقت تدخل فيه روسيا في سياسات شد الحبل أكثر وأكثر بعد غرقها في الوحل الأوكراني، وتشظي أية توقعات لإنتاج اتفاقات دولية تنتج حالة سلام في أوكرانيا بين الروس والغرب؟
والأهم من كل ذلك هل تملك هذه المعارضة السورية المترهلة والغارقة في أتون خلافاتها الداخلية وفي اللاجدوى، تفويضا وإمكانية لعقد أية اتفاقية غير عادلة مع هذا النظام، في وقت عبر فيه نبض الشارع الحقيقي السوري عن نفسه من خلال مظاهرات جماهيرية مهمة لم تشهدها هذه المناطق منذ فترة طويلة، رافضة لأي تصالح مع نظام قتل شعبه ومازال المجرم والقاتل طليقًا؟.
تساؤلات كثيرة تضع نفسها اليوم أمام السوريين والأتراك وكل المهتمين بالشأن السوري، كل الأصدقاء، واللا أصدقاء، للبحث عن حل عادل للمسألة السورية، لا يكون فيه إلا مصلحة الشعب السوري، ولتكون مصلحة السوريين هي العليا، ولا يعلوها أي شيء، ضمن احترام واعٍ لمصالح الدول الصديقة، والتي وقفت ومازالت إلى جانب الشعب السوري المظلوم والمكلوم والمحكوم من قبل عصابة وليس دولة، فعلت مافعلته في جسد الوطن السوري تمزيقًا وتفتيتًا وتهجيرًا وقتلًا واعتقالًا وتهديمًا للبنية التحتية.
المصدر: تلفزيون سوريا