سمير صالحة
بذل المتحدث باسم الخارجية التركية تانجو بيلغيتش، جهدا مضاعفا وهو يحاول الالتفاف على العديد من المواقف والتصريحات الصادرة عن أكثر من قيادي سياسي تركي تتعلق بمسار ومستقبل الأزمة السورية، وأثارت موجة من ردود الفعل السلبية والغاضبة في صفوف قوى المعارضة السورية والشارع في المناطق المحررة.
يقول بيلغيش إن أنقرة لن تغير من مواقفها حيال قوى المعارضة ودعمها لها كما فعلت منذ سنوات. فتركيا، التي توفر الحماية المؤقتة لملايين السوريين، وتواصل إسهامها الفاعل في تهيئة الأجواء المناسبة من أجل العودة الطوعية والآمنة لهم إلى أراضيهم، وبذل الجهود الرامية لإيجاد حل للنزاع وفق خريطة الطريق المحددة في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 ما زالت على مواقفها.
كنا نستعد لتحليل وتفسير تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي أطلقها في طريق عودته من قمة سوتشي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي دعاه للتواصل والحوار المباشر مع بشار الأسد لتسوية الخلافات بين البلدين في الملف السوري. فدخل الإعلامي يلماز بيلغان عبر صحيفة "تركيا" المقربة من الحزب الحاكم على الخط، ليعلن عبر مادة تحليلية مطولة تحت عنوان "الخطوة التي ستخمد النار في سوريا" عن وجود أكثر من سيناريو ومعلومة حول تحولات مرتقبة في سياسة تركيا السورية، وفي مقدمتها احتمال حدوث التقارب والحوار المباشر بين أردوغان والأسد بجهود وساطة خليجية أفريقية روسية إيرانية.
تتويج كل هذه التصريحات والمواقف الصادمة ترك لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الذي تحدث عن "ضرورة وجود إدارة قوية لمنع انقسام سوريا". وأنه "علينا أن نصالح المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما، وإلاّ فلن يكون هناك سلام دائم". تم تصحيح عبارة المصالحة على النحو التالي "وشدد جاويش أوغلو على ضرورة تحقيق اتفاق بين النظام السوري والمعارضة، مبينا أنه لا يمكن تحقيق سلام دائم إذا استمرت الخلافات بين الجانبين". اللافت كان كشف الوزير جاويش أوغلو عن حوار خاطف وقوفا على الأقدام مع وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، العام الماضي، على هامش قمة حركة عدم الانحياز في بلغراد، من دون أن يطلعنا على فحوى الحوار.
وجهنا من الداخل التركي أكثر من رسالة تقلق مئات الآلاف من السوريين المنتشرين في مناطق الحدود التركية السورية وتدفع الحليف في صفوف المعارضة والائتلاف الوطني للارتباك والاستغراب، خصوصا عندما نسمع من يقول لنا في الإعلام العربي "بقي أن نراكم قريبا تأكلون حلاوة الجبن مع قيادات النظام في دمشق".
تقول موسكو إنّ أموراً كثيرة تغيّرت في مسار الأزمة السورية منذ 11 عاماً حتّى اليوم، وإنّ على تركيا أن تبدّل من مواقفها وسياساتها السورية. يقول أردوغان بالمقابل إنّ بوتين يتعامل مع المواقف والمتطلّبات التركية في سوريا بواقعية وإنصاف. لكنّ أردوغان يعرف تماما أنّ نظيره الروسي هو من نصح النظام وقسد أكثر من مرّة بعدم التصعيد ضد بعضهما البعض، وأن يحتفظا بهذه الورقة لاستخدامها ضدّ تركيا عند اللزوم. واشنطن لا تتحدث كثيرا تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض دفاعا عن مصالحها ومصالح حليفها المحلي. الملف السوري على موعد مع مفاجآت سياسية وميدانية كثيرة في الأسابيع المقبلة.
من حق القيادة السياسية التركية أن تعدل في مواقفها وسياساتها الداخلية والخارجية كما تشاء وبحسب التطورات والتحولات التي تقتضيها المتطلبات والمصالح. لكن قيادات العدالة والتنمية تعرف تماما أنه ليس من حقها إقناع قوى المعارضة السورية بتغيير سياستها هي الأخرى وقبول هذه التحولات أو محاولة إلزامها بها إذا لم تجد فائدة فيها، حتى ولو كانت حقوق الشراكة والصداقة والتنسيق في العقد الأخير تعطي أنقرة الكثير.
تستعد قيادات قوى المعارضة السورية رغم شرذمتها وتفرقها لسيناريو التحول في سياسات تركيا السورية لأن حزب العدالة والتنمية لم يعد قادرا على تحمل ارتدادات وأعباء الملف عليه في الداخل والخارج بعدما ترك وحيدا في مواجهة أكثر من لاعب محلي وإقليمي. السؤال الآن هو كيف ستتعامل قيادات المعارضة السورية وهيئاتها ومنصاتها السياسية والعسكرية والإعلامية مع المرحلة المقبلة؟
تصريحات وزير الخارجية التركي حول "أنَّ أنقرة ستقدم كل أنواع الدعم بما فيه الدعم السياسي لدمشق من أجل إخراج الإرهابيين من المنطقة"، تعني قوى المعارضة السورية التي كانت تنتظر العملية العسكرية الخامسة في شمال غربي سوريا منذ 4 أشهر وتعول عليها لتحرير المزيد من المناطق في شمالي سوريا تمهيدا لبناء المنطقة الآمنة. لكن الرسائل التركية أتت باتجاه آخر. لن تعترض أنقرة على العروض الروسية المغرية التي قد تساعدها على الخروج من ورطة مكلفة على هذا النحو. لكن الثمن الواجب دفعه قد يكون على حساب قوى المعارضة السورية حليفها وشريكها في الملف منذ عقد فهل تغامر على هذا النحو؟
عندما قصد الرئيس التركي أردوغان موسكو في 5 آذار 2020 كان يردّد أن المواجهة مستمرة في شمالي سوريا حتى انسحاب قوات النظام السوري من المناطق التي دخلتها بعد اتفاقية سوتشي. بدوره، دولت بهشلي، حليفه في حزب الحركة القومية اليميني، كان يهدد ويتوعد دمشق، ويحمّل موسكو مسؤولية استهداف الجنود الأتراك في إدلب. وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، كان يعلن من ناحيته أن تركيا مستمرة بما بدأت به "إلى أن يرحل هذا النظام". قيادات العدالة والتنمية ستدافع عن أسباب التحول في سياستها السورية وبهشلي قد ينسى ما قاله قبل عامين لصالح متطلبات المرحلة وحيث تظهر قيادات العدالة والتنمية رغبة كبيرة في توسيع رقعة علاقاتها مع روسيا والدفاع عنها بعد خطط ومشاريع تقارب وتعاون استراتيجي في ملفات متعددة الجوانب والأهداف بطابع ثنائي وإقليمي.
تريد قيادات الحزب الحاكم أن تسترد الكثير من النقاط التي فقدتها في الأعوام الأربعة الأخيرة لصالح قوى المعارضة التركية في أكثر من عملية انتخابية وقبل التوجه إلى الصناديق في شهر حزيران المقبل. المعارضة التركية لن تقول لا لما يجري لأنها كانت أول المدافعين عن ضرورات التتغيير في سياسة تركيا السورية. لكن المشكلة الآن هي إقناع الناخب التركي أن هذه التحولات ستتم من دون ثمن سياسي يدفع بعد عقد من الزمن ومليارات الدولارات من الخسائر والعشرات من القتلى والجرحى والاصطفافات الإقليمية ضد تركيا في سوريا.
وصلت التفاهمات التركية الروسية كما يبدو اليوم إلى ضرورة صناعة اتفاقية أضنة جديدة معدلة تأخذ بعين الاعتبار المشهد السياسي والميداني القائم في شمالي سوريا. والأمور ستتقدم باتجاه إجبار مجموعات قسد على الخروج من المناطق التي تزعج تركيا، إلى جانب ضرورة إسقاط ملف داعش من يد هذه المجموعات في شرق الفرات. فهل ثمن كل ذلك هو التحول المرتقب في مواقف أنقرة حيال النظام أو تسهيل تمدده وانتشاره في مناطق نفوذ قسد، وتحديداً في مدينة القامشلي الحدودية المنسية؟ ألن يسأل أحدهم المعارضة السورية عن رأيها في كل هذه السيناريوهات؟ ألن تنطق واشنطن بشيء ما لتذكير آلية الأستانا بوجودها في الشمال والشرق السوري؟
ما يطرح في أنقرة وموسكو وطهران حول سيناريو مسار جديد في التعامل مع ملف الأزمة السورية يحتاج إلى رأي بقية اللاعبين المؤثرين في الملف وعلى رأسهم نصف الشعب السوري المنتشر في بقعة الحدود السورية التركية المتداخلة منذ سنوات، وإلى تتبع ما ستقوله قيادات الائتلاف والجيش الوطني والقوى السياسية والعسكرية السورية المنتشرة في إدلب. هناك أيضا عواصم عربية وغربية ناشطة ومؤثرة في سوريا يتقدمها اللاعب الأميركي في شرق الفرات سيقول ما عنده حتما.
خلط الأوراق بين آلية الأستانا أو سوتشي لن يكفي لتلميع صورة النظام في دمشق أو تفعيل دوره الإقليمي عبر إخراجه من العناية الفائقة. هناك قرارات وتقارير أممية ودولية ووثائق سياسية وعسكرية وميدانية حول ما ارتكبه النظام من جرائم ضد شعبه في العقد الأخير في محاولة لقمع الثورة وإخمادها حتى ولو تقدمت لغة المصالح والسياسة في هذه الآونة.
المصدر: تلفزيون سوريا