سمير الزبن
تحتاج الأفلام السينمائية إلى ديكوراتٍ من أجل مطابقة واقع التصوير مع سيناريو الفيلم، إنها عملية لتحويل الخيال الفني إلى صورة متحرّكة، تجسّد هذا الخيال في مشاهد لحركة البشر في أماكن تتطابق مع متطلبات السيناريو على الشاشة، فعندما تتحرّك شخصيات الفيلم في أماكن مدمّرة، يجب أن يصنع الفيلم ديكور الدمار المناسب الذي تتحرّك فيه شخصيات الفيلم وتجري أحداثه عليها. وذلك كله من أجل أن تكون الصورة في الفيلم مقنعة للمشاهد. ديكور الفيلم واقعٌ مزيف يقدّم نفسه حقائق مقنعة، هذا ما يعرفه الجميع.
ماذا لو كان هذا الديكور من الدمار حقيقيا، وليس واقعاً مزيفاً؟ لا يحيل هذا السؤال إلى النقد الفني السينمائي، بل إلى السياسة والأخلاق. هذا ما يفعله جاكي شان نجم أفلام الحركة، الذي ينتج فيلماً بتمويل صيني إماراتي، اختار تصويره فوق أنقاض مباني الحجر الأسود، الضاحية الفقيرة في جنوب دمشق، التي دمرها نظام الأسد والطائرات الروسية، بإسقاط عشرات آلاف القذائف والصواريخ على رؤوس الناس وتهجير سكانه من سوريين وفلسطينيين، حتى آخر شخصٍ يقيم هناك، وتحويلهم إلى لاجئين داخل البلد وخارجه. وذلك كله بحجّة "محاربة الإرهاب"، وهي الدعاية الكاذبة للنظام، لأن الحجر الأسود من أوائل الأماكن في سورية التي تظاهرت بكثافة ضد النظام، والكتلة الأساسية من سكانه هم من نازحي الجولان المحتل. كل من يعرف المنطقة، أو يسكن في محيطها، يعلم علم اليقين أن هذا المكان الذي تظاهر أشهرا طويلة، لم يكن المتظاهرون فيه يملكون غير حناجرهم، قد تعرّض إلى قمع وحشي، وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وسقط مئات القتلى من سكان المكان بالقمع الوحشي للنظام، قبل أن تطلق أي طلقة ضد النظام. ويعرف كل من كان على اطلاعٍ على التشكيلات العسكرية الأولى في الحجر الأسود، أنها من صناعة النظام نفسه، وأن قادة هذه التشكيلات عندما انتهت مهمتهم عادوا إلى حضن النظام. كما أن الحجر الأسود كان من أول المناطق التي حلّق الطيران المروحي فوقها، وكل سكان المناطق المجاورة شاهدوا التحليق المستمر للطائرات، والتي تُطبق النار هنا وهناك، وأنا من سكان المناطق المجاورة.
لم يكن كل سكان الحجر الأسود من الإرهابيين كما يقول النظام نفسه، حتى هذه الحجّة ليست كافية، ولا بأي مقياسٍ من المقاييس السياسية والعسكرية والأخلاقية، لتدمير المكان على رؤوس ساكنيه. لم يتم تدمير الحجر الأسود جزئياً، لقد جرى اعتماد سياسة الأرض المحروقة والتهجير السكاني. لذلك تم تدمير كل وسائل الحياة في المنطقة بحصارها الخانق، وتدمير مبانيها بالصواريخ والقذائف تدميراً كاملاً.
على هذا الدمار الحقيقي، قرّر الممثل جاكي شان إنتاج فيلمه Home Operation. ومن المفارقات أن أحداث الفيلم عن إجلاء أكثر من 600 مواطن صيني وآخرين أجانب من اليمن، بعد اندلاع الحرب فيها. ولم يتم تصويره في اليمن، لأن طاقم الفيلم اعتبر اليمن بلدا غير آمن. طاقم الفيلم الذي يريد تصوير فيلم ينقذ أبطاله ضحايا من حربٍ تندلع في اليمن. وللأسف، من يصنع فيلماً عن ضحايا، لا يملك حساسية أخلاقية تجاه ضحايا آخرين، أصحاب المكان الذي يصوّر فيه فيلمه، والذي يعرف أن هذا الدمار كان بفعل فاعل هو النظام السوري وداعموه. وليس من المستبعد أن بعض ضحايا القصف الوحشي ما زالوا تحت الدمار الذي يصوّرون فوقه فيلمهم. وليس الحجر الأسود المكان الوحيد في سورية الذي لا تزال هناك ضحايا تحت الأنقاض التي صنعتها آلته الحربية وآلة حلفائه الروس والإيرانيين، فهناك عشرات المدن والبلدات المدمّرة في سورية، والتي ما زالت جثث الضحايا تقبع تحت الدمار الذي صنعه النظام.
تأجير النظام في سورية الأماكن المدمرة لاعتمادها ديكوراً رخيصاً في أفلام ومسلسلات لا يقل بشاعة عن تدمير الأماكن ذاته. لا لأنه لا يملك حساسية تجاه الضحايا الذين قتلهم بأسلحته فحسب، بل ولأنه ضعيفٌ أمام المال. لا تعنيه حتى روايته عن الأحداث، بوصفها حرباً انتصر فيها كلفت البلد خسائر وتضحيات يجب احترامها. إنه الانحطاط الكامل لنظام سياسي لم يعد له مبرّر ولا أسس للوجود لنظام مجرم، سوى أنه يعتقل البلد الذي دمره.
وإذا كان هذا معروفاً ومتوقعاً من نظام مجرم دمّر بلده، فما الذي يجعل طاقم الفيلم، يصوّر فيلمه في أماكن مدمّرة، ضحاياها ما زالوا يعانون التهجير والاقتلاع من بيوتهم؟ هل يكفي توفير المال حتى يرتكب صنّاع الفيلم هذه الإهانة بحق الضحايا؟ أتحتاج جهداً كبيراً معرفة من دمر المكان، الذي بناه سكانه/ الضحايا بتعبهم وعرقهم، وهدم فوق رؤوسهم بالقذائف والصواريخ؟
الفن من دون قيَم أخلاقية وحساسية تجاه آلام الناس يمكن أن يكون شريكاً في الجريمة، لأنه يوفر مالاً للمجرم على حساب آلام الضحايا، فتحويل الأماكن التي تعتبر شاهداً على جريمة مرتكبة بحق الناس، إلى مجرّد ديكور في فيلم حركة هو استهتار بآلام الناس وبكل القيَم الأخلاقية. ليست هذه محاكمة سياسية للفيلم، وليس مطلوبا من صناع الفيلم موقف سياسي، المطلوب منهم موقف أخلاقي وحساسية تجاه آلام الضحايا.
لا ينبغي ترك الفيلم يمرّ مرور الكرام. ولأن السينما يُفترض فيها أن تكون فناً نبيلاً، يجب محاربة الفيلم بكل قوة، والدعوة إلى مقاطعته من كل صاحب ضمير. آلام الضحايا يجب أن تكون عنواناً لمحاكمة المجرم، لا ديكوراً في فيلم حركة رخيص يمجّد دكتاتورية الصين.
المصدر: العربي الجديد