عمار السمر
في ليلة 15 من تموز 2016 كنت أقضي أيامي الأخيرة في المدينة التي أحببتها دمشق، إذ كنت قد جهزت أموري للخروج مع عائلتي إلى لبنان خوفاً من بطش نظام الأسد. في تلك الليلة كانت الكهرباء مقطوعة، كعادتها عن حينا في إحدى ضواحي دمشق، الذي أغلب سكّانه نازحون من مناطقهم الأصلية مثلي.
كان السكون الكئيب يخيّم قبل أن تخرقه فجأةً أصوات الرصاص، تعاملنا مع الأمر بلامبالاة بدايةً، فالرصاص أصبح أمراً اعتيادياً حتى ولو لم تكن هناك معارك، فقد يكون عرساً أو جنازةً لأحد الشبيحة، خاصةً وأن أحد الأحياء الموالية قريب منا. لكن أصوات الرصاص ازدادت وتعالت وصارت تأتي من كل الجهات، يخالطها صوت أسلحة متوسطة وربما ثقيلة. أصبنا بالهلع وتجمعت العائلة في الحمام كالعادة بعيداً عن النوافذ. دفعني استمرار الأصوات للنظر من النافذة فلم أر شيئاً في الحي، فقط أصوات وأضواء الرصاص من الحاجز القريب. رأيت جاراً ينظر مثلي فسألته: شو في؟ قال ما بعرف!
بدأت الظنون تدور في رؤوسنا، وكلمت جيراني عن ضرورة إنزال العائلات والأطفال إلى القبو فقد اعتقدنا أن شيئاً كبيراً يحدث دون أن نحاول التفسير خوفاً، فكلنا نازحون وبالكاد نعرف بعضنا. بيني وبين نفسي ظننت أن الثوار يهاجمون الفرقة الرابعة التي يقع حينا على تخومها. وبينما نحن على هذا الحال توقفت سيارة أمام البناء فإذا هو جارٌ قادمٌ. ركضنا وسألناه: شو في؟ فقال إنه فوجئ بصوت الرصاص وهو في الطريق، وكاد يموت خوفاً وهو يقترب من الحاجز العسكري في مدخل الحي والرصاص ينهمر منه، ولكنه عندما وصله وجد عناصره يضحكون على غير عادتهم ويحتفلون ويسكرون ويطلقون الرصاص في الهواء، ومن دون تفتيش قالوا له: "روح مروق" (تابع سيرك)، "خلصت بسوريا، طار أردوغان".
وما لبث أن جاءنا جار آخر بالخبر اليقين، فقد شاهد أحد أقاربه في التلفاز خبراً عاجلاً عن انقلاب عسكري في تركيا، فعرفنا أن سبب هذا الرصاص هو احتفال جيش الأسد وشبيحته ومؤيديه بهذا الحدث. عاد الجيران إلى بيوتهم دون أن يعلق أحد منهم بكلمة، لكن الحزن والخوف كانا ظاهرين على وجوههم. وما لبثت أن دخلت الحي سيارتان للشبّيحة وهم يطلقون الرصاص ويهتفون لسيدهم بشار ويصرخون بقصد إسماع أهل الحي: "هاي طار أردوغان يا كلاب!".
بعد أن جاءت الكهرباء تابعت الأخبار على المحطات التي اختلفت تغطيتها، وبعضها كان يصطنع الحيادية. وحده التلفزيون الرسمي السوري كان محتفلاً، مؤكداً نجاح الانقلاب دون أن يعرض ما تبثه بعض المحطات العالمية عن خروج الأتراك إلى شوارع المدن رافضين الانقلاب واشتباكهم مع الانقلابيين.
ومع ورود الأنباء عن فشل الانقلاب بدأت أصوات رصاص جماعة الأسد تتراجع حتى توقفت قبل بزوغ الفجر. وفي الصباح مررت بالحاجز فوجدت عناصره قد عادوا إلى وجوههم المكفهرة مع غضب ينم عن خيبة، ينظرون إلى الناس المساكين الواقفين بالطابور ويعاملونهم على أنهم شامتون بهم، فيفرغون غضبهم عليهم.
هكذا، لم تكن الساعات الأولى من يوم 15 من تموز ساعاتٍ عصبيةً في تركيا فقط، بل كان للحدث أصداء كبيرة في أماكن كثيرة من العالم. ولكن في سوريا كان الصدى مختلفاً تماماً كما بدا واضحاً من أول لحظة للانقلاب. ويمكن اعتبار ذلك منطقياً إلى حد كبير بسبب الترابط الكبير بين البلدين الذي أصبح أمراً واقعاً منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011 وتأييد تركيا لها، فأصبحت العدو اللدود لنظام الأسد ومؤيديه، هي وكل من ناصر الثورة ولو إنسانياً. أقول هذا دون الدخول في تفاصيل الدعم ومقدميه وغاياتهم، فهذا ليس موضوع هذا المقال.
ولا غرابة أن يتم النظر إلى ما يجري في تركيا كقضية داخلية سورية، نظراً لوجود ملايين السوريين اللاجئين في تركيا وملايين أخرى غيرهم في مناطق سيطرة المعارضة السورية حيث التأثير التركي، بالإضافة إلى ملايين يعيشون في مناطق سيطرة النظام يشعرون بالارتباط العاطفي، ويمكن القول الديني، بتركيا وبحكومة الرئيس رجب طيب أردوغان بعد أن أصبحت الهوية الدينية أحد المحركات الرئيسية للسوريين بسبب سنوات طويلة من التمييز الطائفي الذي مارسه نظام الأسد الأب والابن.
لقد تعزّز الدور التركي في المنطقة والعالم العربي قبل الثورة، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وتحقيقه نجاحات على أصعدة كثيرة. ولن أدخل في تفسير هذا التأييد العربي لحكم أردوغان فقد كُتب عنه. ومما قيل في تفسيره إنه بسبب فقدان البلدان العربية، وخاصة الرئيسية منها، لزعامات حقيقية تحظى بشعبية انتخابية وتحقق الرفاه لشعوبها.
أما نظام الأسد فقد نظر إلى الثورة السورية منذ البداية كمؤامرة خارجية، رغم علمه بوجود أسباب منطقية كثيرة للقيام بمئة ثورة ضده. وكان يعتقد أنه إذا ما تخلت بعض الدول عن دعم المعارضة فإنه سيتمكن من إعادة سيطرته على البلاد، متناسياً أو منكراً أن الثورة السورية قامت من الداخل، وحققت النجاحات الكبيرة وطردت قوات النظام من أغلب المناطق بإمكاناتها الذاتية مما كانت تغنمه من جيشه أو تشتريه من فاسدي ضباطه. وذلك قبل أن تحل علينا لعنة التدخل والدعم الخارجي الذي كان أغلبه غير بريء وضرّ أكثر مما نفع.
كان النظام فرحاً لاعتقاده أن رحيل الحكومة التركية سيغيّر الموقف التركي من القضية السورية، خاصة مع وجود أجندات معلنة لأطراف وازنة من المعارضة التركية مستعدة لعدم التوقف عند إجرام النظام، وتريد إعادة العلاقات وحل مخاوف تركيا الأمنية بالتعاون معه. وتعدى الأمر ذلك إلى زيارة بعض نوابها لدمشق. وقد ثبتت قوة التأثر والتأثير بين تركيا وسوريا. فقد تحول اللجوء السوري إلى قضية ذات أولوية في النقاشات بين القوى السياسية التركية، وكذلك التحولات العميقة في الموقف التركي بعد الانقلاب، والتي وجدنا صداها في سورية تراجعاً لأسباب داخلية ودولية.
يظن النظام وجماعته، أن استمرار الثورة يتعلّق بدعم خارجي كما هو حالهم، وكأنهم لا يعلمون أنها ثورة أصيلة قام بها شعب مل الظلم والقهر والفساد، وستستمر وإن خبت جذوتها قليلاً بغض النظر عما حولها.
المصدر: تلفزيون سوريا