عمر قدور
قبل مدة بدأت تصل إيميلات تحتوي على نشرة بريدية صادرة عن هيئة التفاوض، وهي فرصة لمن لم يعرف من قبل كي يتعرف على الموقع الرسمي الذي يحمل اسم "هيئة التفاوض السورية.. اللجنة الدستورية". لهواة المقارنات؛ يتفوق موقع الهيئة على موقع الائتلاف، من حيث نشره وثائق مفيدة للراغبين في الاطلاع على الدساتير السورية وقرارات مجلس الأمن خاصة بسوريا، وعلى تقارير عن تجارب دستورية عالمية. هذا الاختلاف يبرر ما هو مشترك بين الموقعين المعارضين، لجهة تغطية كلّ منهما أخبار الهيئة التي يتبع لها، وهي كما نعلم لا تسرّ على الإطلاق.
الإيميل الأخير الموزّع من الهيئة قبل ثلاثة أيام ليس فيه جديد لمن يتابع الصحف، ففي الصدارة منه "كما في صدارة أخبار موقع الهيئة" تصريح صحفي لهادي البحرة بصفته "الرئيس المشترك للجنة الدستورية عن هيئة التفاوض السورية"؛ هكذا هي الصفة الرسمية الواردة في البيان. التصريح يتعلق بما هو معلوم عن قرار المبعوث الأممي إلى سوريا تأجيل مفاوضات اللجنة الدستورية، لأن وفد الأسد إلى اللجنة أخطر المبعوث الأممي بأنه سيكون مستعداً للمشاركة فقط عندما تتم تلبية الطلب الروسي المتعلق بنقل مفاوضات اللجنة من جنيف، بما أن موقف سويسرا من الغزو الروسي لأوكرانيا ليس ودياً.
ما يعنينا في الأمر هي صياغة التصريح المذكور، وهو ينقل بين علامتي تنصيص ما يبدو أنه مقتطف من رسالة المبعوث الأممي، وهكذا يرِد بين العلامتين من ضمن الاقتباس المفترض تعبير "الرئيس المشترك الذي رشحته حكومة الجمهورية العربية السورية"!. ولئن كان مفهوماً أن يستخدم المبعوث، تحت يافطة الحياد، تعبير "حكومة الجمهورية العربية السورية" فإن هذا لا يُلزم هيئة التفاوض، وليس مطلوباً من أعضائها في المقابل الزعيق بالشتائم. هناك عدد كبير من الصياغات التي لا تتبنى ما يضمر اعترافاً بشرعية الأسد، ولا يُعقل أنها تغيب عن بال مَن يفاوض في شأن دقيق كمستقبل سوريا.
يستطرد التصريح متهماً إياهم بالتأجيل والتعطيل، ووضع شروط مسبقة لا علاقة للسوريين بها، كما يثبت وضعهم المصالح الأجنبية كأولوية على مصالحنا الوطنية السورية. حسناً، نستطيع أن نستنتج من هم المشار إليهم فيما سبق، لكن المصيبة هي في التصريح الذي يتهرب من توصيفهم مباشرة، بعد أن اقتبس من رسالة المبعوث الدولي التي تحدد صفتهم كما أسلفنا.
أما اتهام الأسد بوضع "المصالح الأجنبية كأولوية على مصالحنا الوطنية" فهو من المضحك المبكي، إذ يأتي كأنه اكتشاف لما هو جديد، والأهم أنه يأتي كتهمة فيها مخالفة للإشارة اللاحقة في التصريح، حيث يذكّر بأن اللائحة الداخلية للجنة الدستورية نصّت بشكل واضح على أن تكون بقيادة وملكية سورية وتيسير من الأمم المتحدة.
لا نبالغ إذا وصفنا ما نقرأ بالفضيحة المكتملة الأركان، فالقاصي والداني وما بينهما يعلمون جميعاً أن الجولات السابقة للجنة الدستورية انعقدت بموافقة روسية، وغالباً بعد زيارة المبعوث الأممي إلى موسكو وطهران لأخذ موافقتهما، ولتقوما بالضغط على الأسد من أجل الموافقة. اللجنة الدستورية نفسها اختراع روسي، بموافقة أمريكية ضمنية، من أجل القول أن هناك عملية سياسية جارية بموجب القرار الدولي 2254، رغم أنها تخالف روحية القرار.
بعبارة أخرى، ومن دون الحذلقة المكشوفة في التصريح المشار إليه، الأسد كان منذ البداية غير موافق على اللجنة، وبذل وفده أقصى جهد للتسويف وإضاعة الوقت. أليس هذا مبرر وجود اللجنة أصلاً؟ والقول الآن أن الأسد يضع المصالح الروسية فوق المصالح السورية معيب، مخجل... إلى آخر ما يخطر في البال لوصف سذاجته، أو ما لا يقل سذاجة إذا كانت الغاية استغفال المتلقي.
ثم إن عبارة "قيادة وملكية سورية" هي في الأصل مطلب روسي-أسدي، غايته منع المجتمع الدولي من ممارسة أي ضغط لدفع أعمال اللجنة. أبعد من هذا، لا يستطيع ميسّر أعمال اللجنة "المبعوث الدولي" ممارسة أية صلاحية بما أن العملية بقيادة وملكية سورية، ولا يستطيع حتى إدانة الطرف المعطّل "وهو لم يفعل" لأنه ليس صاحب صلاحية. على ذلك، لا يطالب التصريحُ المبعوثَ الدولي سوى بإعداد تقرير عن أعمال اللجنة منذ بدايتها، لتقديمه إلى مجلس الأمن، ويلزم أن ننسى هنا وجود الفيتو الروسي في المجلس، والذي يُستخدم عندما تدفع واشنطن بالخلاف إلى حد استخدامه، بينما لا يحدث في أغلب الأحيان ما يستدعيه.
على هامش ذلك، أو في صلبه، لن نذكّر بحال هيئات المعارضة، وارتهان كلّ منها لداعم. ما أردنا الوقوف عنده هو كون التصريح بمثابة نموذج عن الأداء السياسي لهيئات المعارضة، من دون نسيان النموذج الآخر الشعاراتي الذي يكرر نفسه منذ أكثر من عشر سنوات. ميزة هذا التصريح أنه لا يقول جملة واحدة مفيدة في حقل السياسة، وهو يبني على أكاذيب موضوعة أصلاً لخدمة الأسد. ولو امتلك أصحابه القليل من الجدية لتوجهوا بخطابهم إلى الروسي بصفته صاحب القرار، هم الذي رحبوا ضمناً من قبل بالموفدين الروس المتواجدين في جنيف لضبط التهريج الذي يقدّمه وفد الأسد.
لنعزّي أنفسنا نقول أحياناً أن من الخير نسيان هذه المعارضة برمّتها، لكن هذه الهيئات موجودة مع الأسف لتزعم النطق باسم ملايين السوريين غير الراضين عنها، والذين لم يفوّضوها أصلاً. المصيبة أنها، بركاكتها، تؤدي الخدمة الأساسية المطلوبة منها، وهي إظهار البديل عن الأسد بالركاكة ذاتها. لدينا معارضة يعزّ عليها توقف عمليةٍ هدفها الأول والأخير إضاعة الوقت، ذلك بدل ما لم تقدم عليه، ولا تستطيع ولا تريد الإقدام عليه، أي المبادرة إلى الانسحاب من هذه العملية المهينة منذ بدايتها. ولو شئنا الذهاب أبعد لقلنا أنها ربما المرة الأولى التي يوجد فيها قاسم مشترك بين وفدي المعارضة والأسد، لجهة التكهن بأن وفد الأسد يفضّل ضمناً أيضاً، لأسباب سياحية، أن تنعقد المفاوضات في أوروبا، لا خارجها كما تطالب موسكو الآن.
ينتهي التصريح بتوقيع "الرئيس المشترك للجنة الدستورية"، حيث يأتي الاسم مسبوقاً بلقب "المهندس". واستخدام اللقب العلمي خصوصية أخرى، فنحن مثلاً لا نرى سياسيين في العالم يستخدمونه، ولا نصادفه عادة إلا في سياق سرد سيرهم الشخصية. لا أحد، في فرنسا مثلاً، يقول المحامية مارين لوبان أو المدرّس ميلونشون.
ما أبأس حالنا!
المصدر: المدن