العقيد عبد الجبار العكيدي
لم تكن دول الخليج العربي ومعها المملكة الأردنية الهاشمية بحاجة الى وقت طويل لكي تدرك ماهية مشروع ايران (الخميني) منذ وصوله الى السلطة عام 1979، اذ شاء الخميني آنذاك ان تكون فكرة التمدّد (تصدير الثورة) هي الأولوية في السياسة الخارجية.
وانطلاقاً من هذه الفكرة اندلعت الحرب العراقية الإيرانية واستمرت ثماني سنوات ( 1980 – 1988 ). وطيلة سنوات الحرب، لم تكن تجهل تلك الدول ان خطر الثورة الخمينية لم يكن يستهدف بلداً عربياً بحد ذاته، بل يستهدف عموم دول المنطقة. وعلى الرغم من معرفتها للتحالف العضوي والاستراتيجي بين نظام دمشق وطهران منذ ذلك الحين، إلا انها كانت ترى ان الاستراتيجية الأمثل لاتقاء شر ايران هي سياسة الاحتواء وليس المصادمة.
ربما لهذا السبب آثرت دول الخليج ان تبقى علاقاتها مع نظام دمشق على درجة من التوازن، لظنها آنذاك ان احتواء الخطر الإيراني انما يتجسد في قسم كبير منه بالحفاظ على علاقة وطيدة مع الأسد الاب الذي كان يفضل هو الاخر ان يظهر امام دول الخليج والأردن على انه هو صمام الأمان لهذه الدول من مخاطر الخمينية الصاعدة. وعلى الرغم من ذلك، فان حافظ الأسد استطاع طيلة سنوات الحرب العراقية الايرانية ان يمارس ابتزازاً واضحاً على دول الخليج، ولم ينتهِ هذا الابتزاز الا بانتهاء تلك الحرب عام 1988.
يبدو ان سياسة الاحتواء لا تزال خياراً شديد الحضور امام معظم الدول التي لا يزال يؤرقها الخطر الإيراني ويدفعها لأنْ تطرق أبواب دمشق كلما دعت الحاجة الى ذلك. ولم تكن الخطوة التي قامت بها الامارات العربية المتحدة أواخر عام 2019، إلا سعياً في هذا السياق، وهذا ما فعله الأردن ايضاً حين ظن ان خطر ميليشيا ايران المنتشرة على حدوده في الجنوب السوري لا يمكن مواجهته الا من خلال سياسة الاحتواء ذاتها. ولعل زيارة ملك الأردن عبد الله الثاني الى واشنطن في حزيران/يونيو 2021 ولقاءه بالرئيس الأميركي جو بايدن، كانت بهدف التأكيد على حاجة الأردن الى انفتاح جزئي مع دمشق بعيداً عن سطوة العقوبات التي يفرضها قانون قيصر على النظام السوري.
تمثل هذا الانفتاح بالموافقة على مد خطوط الغاز والكهرباء عبر سوريا الى لبنان وكذلك تجسد بتنشيط حركة الدبلوماسية بين عمان ودمشق والزيارات الرسمية لوفود البلدين وفتح المعابر والتبادل التجاري الذي كانت تعوّل عليه الأردن لإنعاش اقتصادها.
وعلى الرغم من موافقة بايدن على طلب الملك الأردني، الا ان التطبيق الفعلي لهذا الانفتاح وكذلك التجليات الأولية لمشروع ما بات يعرف بـ"اللا ورقة" وخطوة مقابل خطوة التي كان الملك اول من طرحها، لم يكن الا سبباً للمزيد من اندفاعة وتغوّل الميليشيات الإيرانية ليس نحو تعزيز المدّ الطائفي فحسب، بل لإغراق الأردن بالمخدرات وجعله ممراً لها الى دول الخليج الأخرى.
ربما هذه النتيجة الصادمة للأردن هي ما دفعت الملك عبد الله الثاني للتوجه الى واشنطن في أيار/مايو المنصرم ليطلب من الرئيس الأميركي الدعم في مواجهة خطر تمدّد الميليشيات الإيرانية، وربما كانت ايضاً هذه النتيجة الصادمة ذاتها هي ما جعلت الملك يغادر فكرة "خطوة مقابل خطوة" ليتجه الى طريق مناقض لها ونعني بذلك دعوته الى انشاء "ناتو عربي".
فكرة "ناتو عربي"، على ما يبدو، يوجد لها تأسيس نظري سابق ونعني بذلك مفهوم (الشرق الأوسط الجديد) الذي طرحه رئيس وزراء إسرائيل الأسبق شمعون بيريز منذ تسعينيات القرن الماضي. وبغضّ النظر من كون هذا المفهوم كان المنطلق للرغبة الأردنية ام لا، فان إسرائيل على اي حال تبقى هي الرقم الصعب لهذا الناتو وفقاً لتصورات الملك الأردني، سواء صرح بذلك الأردن ام لم يصرح، وذلك لسبب أساسي مفاده ان دول المنطقة العربية والخليجية والأردن منها على وجه الخصوص لا تمتلك منظومة امنية دفاعية تتأسس على قدراتها الذاتية، بل كانت على الدوام منضوية تحت المظلة الأمنية والعسكرية الاميركية.
الا ان واشنطن ومنذ مجيئ إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الى الحكم، بدأت بنهج سياسي حيال ايران ينطوي على الكثير من المهادنة ويبتعد عن الصدام المباشر مع ايران، ما جعل دول الخليج والأردن يستشعران انزياح المظلة الأمنية الاميركية عن حمايتها ولو كان ذلك تدريجياً، الامر الذي يجعل تحالف تلك الدول مع إسرائيل في مواجهة خطر ايران التي باتت تحتل اربع عواصم عربية وأصبحت تحاصر دول الخليج والأردن من الشمال والشرق والجنوب، امراً وارداً او قابلاً للنقاش. وربما في اجندة زيارة الرئيس الأميركي الى المنطقة بعد أيام محاولة اقناع بعض دول المنطقة التي ما تزال رافضة لفكرة التعامل مع إسرائيل.
ثمة خيارات أخرى لمواجهة خطر إيران ربما تكون موازية للتنسيق مع إسرائيل، ومن ذلك مثلاً ما يتم تداوله عن انشاء منطقة امنة في الجنوب السوري بعمق (35 كلم) تكاد تكون مماثلة للمنطقة التي تحاول تركيا اقامتها في الشمال السوري. وعلى الرغم من نفي الحكومة الأردنية الانباء المتداولة حول إقامة "منطقة آمنة" على الحدود السورية، وانه لا توجد نقاشات في هذا الخصوص، وان الأردن لا يفكر بإقامة هذه المنطقة، الا ان ما يدور في الكواليس من احاديث بين الأطراف النافذة في المنطقة يشير بوضوح الى ان انشاء منطقة امنة في الجنوب خالية من ميليشيا الأسد وايران معاً هي احدى الرغبات التي يطمح اليها الأردن الذي يستشعر خطراً جدّياً بسبب الوجود الإيراني في جنوب سوريا، وهذا الوجود اصبح يهدد الامن الوطني الأردني..
وبالتالي فإن الأردن، ومن خلال طرح المنطقة الأمنية يحاول ابعاد الميليشيات الإيرانية عن حدوده لحماية امنه الوطني، وبنفس الوقت يهدف لتوجيه رسائل الى دول الخليج ان الأردن ضمن محور مقاومة ايران ومجابهتها ولن يكون مهادناً باتجاه السلوك الإيراني في المنطقة.
وعلى الرغم من عدم وجود معطيات مؤكدة، الا انه من الواضح ان هناك مناقشات بينية تجري بين حكومات الدول المعنية بترتيبات المنطقة الامنة التي لا يمكن انشاؤها الا بتوافق دولي، بالإضافة الى اعتبارات كثيرة يجب اخذها بالحسبان، ومنها الصعوبات الكبيرة التي تواجه انشاء هذه المنطقة، وفي مقدمتها ان المنطقة الامنة تحتاج الى تدخل عسكري، وبالتالي، هل لدى الأردن والدول الحليفة له القدرة على اتخاذ هذه الخطوة فضلا عن تحمل نتائجها؟ أضف إلى ذلك ان إقامة منطقة امنة تحتاج الى التنسيق مع نظام الأسد حول كيفية تأمين ممرات لهذه المنطقة، فهل من الممكن التفاهم في حال رفض النظام، الذي، في الأصل، لا يملك القرار، كون القرار بيد ايران؟
وعلى الرغم من ان التحركات الميدانية والتدريبات العسكرية التي أجرتها القوات الاميركية باستخدام أسلحة نوعية متطورة مع فصيل مغاوير الثورة في منطقة التنف الاستراتيجية وتزويد الفصيل براجمات الصواريخ من نوع هايمرز المتطورة والتي يصل مداها الى 300 كم، ربما تكون احدى ارهاصات انشاء المنطقة الامنة، الا ان كل المعطيات تشير الى ان إمكانية فشل إقامة المنطقة الامنة راجحة على إمكانية نجاحها بسبب الضغط الإيراني وتعنت النظام وعدم جدية الموقف الأميركي بتحجيم الدور الإيراني في المنطقة.
ورغم كل هذه الجهود التي يبذلها الأردن ودول الخليج لإيجاد آليات ناجعة للتصدي للخطر الإيراني، وكان التنسيق والتحالف مع إسرائيل هو احد اشكال هذه الاليات الدفاعية، الا ان السؤال الذي ينبغي ألّا يغيب عن الاذهان هو: هل الصراع بين إسرائيل وايران هو صراع مصالح وحجم نفوذ ام هو صراع وجودي؟ وربما هذا السؤال يثير سؤالاً اخر وهو التالي: ماذا لو توصلت إسرائيل الى تفاهمات مستقبلية مع ايران؟
المصدر: المدن