أحمد مظهر سعدو
تواكب زيارة ولي العهد السعودي إلى تركيا الأمير محمد بن سلمان حالة من التحرك والانفتاح السعودي، وكذلك التركي، على مجمل دول المنطقة، وتؤسس نحو بناءات جديدة في العلاقات الدولية الإسلامية، تستند إلى قاعدة (صفر مشكلات) مع الكثير من الدول الإقليمية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وهي سياسة طالما انتهجتها الدولة التركية في السنوات الأخيرة. ويبدو أن السياسة السعودية تجاريها وتتساوق معها في ذلك خلال السنوات الأخيرة، بل السنتين الأخيرتين بشكل خاص. وإذا كانت هذه السياسة باتت ضرورة استراتيجية تسهم في دفع سياسة الإصلاح الداخلية التي ينتهجها محمد بن سلمان، وتساعده في إعادة إنتاج واقع اقتصادي واجتماعي إصلاحي أمسك به منذ أن اعتلى الحكم في ولاية العهد بتاريخ 21 حزيران/يونيو 2017، عندما جرت تسمية الملك سلمان بن عبد العزيز (86 عامًا) نجله محمد وليًا للعهد.
فإن هذه السياسة وبهذه المواصفات قد أضحت ضرورة بنيانية استراتيجية أكثر أهمية بالنسبة لحكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا، من خلال الاشتغال الحثيث لإعادة بناء اقتصاد تركي قوي وأكثر تماسكًا، وينعكس على الحالة المعيشية لدى المواطن التركي، إبان الأوضاع الصعبة التي واكبت جائحة الكورونا، وأيضًا الأزمة العالمية الناتجة عن الصراعات الكبرى بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما تركه من آثار جمة على مجمل اقتصادات العالم.
ولعل هذه الزيارة المرتقبة ستكون لها انعكاسات كبرى ليس على الواقعين الداخليين في تركيا والسعودية فقط، بل على كثير من الملفات الجيوسياسية في المنطقة، ومنها بالضرورة واقع الملف السوري والقضية السورية المتعطلة منذ فترة ليست بالقصيرة.
إذًا، هو لقاء الضرورة المهم الذي سيعيد الاشتغال وحلحلة كثير من المسائل التي تهم كلا الطرفين وستترك آثارها على العديد من الملفات المستقبلية والآنية لفترات لايبدو أنها قصيرة، ويمكن إجمال أهم المحطات التي يمكن أن تتوقف عندها هذه الزيارة ولقاء القمة هذا من خلال مايلي:
استعداد وعمل متواصل من قبل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من أجل تمكين موقعه دوليًا وإسلاميًا وعربيًا مرة جديدة، عبر رحلته إلى تركيا، التي تأتي بعد زيارات إقليمية كان آخرها تمتين العلاقة أكثر مع القاهرة، قبل زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن القريبة جدًا إلى المملكة العربية السعودية والمنطقة العربية، وهي الأولى من نوعها بعد تسلم جو بايدن الإدارة الأميركية.
زيارة ولي العهد السعودي تأتي بعد تأكيدات تركية وعلى أعلى المستويات مفادها أن التفكير التركي الاستراتيجي يعمل على المزيد من تطوير العلاقات مع المملكة العربية السعودية وصولًا بها إلى أعلى المستويات، وهي مداميك بنيانية تصر تركيا عليها ضمن حالة تجاوز وتخطي لمجمل ما اعترى العلاقة البينية بين تركيا والسعودية من جراء مشكلة خاشقجي ومانتج عنها من تغيرات في العلاقات بينهما طالت مدتها لسنوات طوال وعجاف.
التحرك السعودي نحو تركيا ضمن الترحيب التركي الواضح يأتي في سياقات عديدة منها أنها تندرج في أتون حراكات وزيارات مهمة عملت عليها السعودية بعد اجتماعات وزيارات لقادة مهمين إلى الرياض، أنجزها قادة تركيا وفرنسا وبريطانيا. وهذا يراكم عملاً حثيثًا يبرز الأدوار الأكثر أهمية في المنطقة برمتها لكلا القيادتين السعودية والتركية.
ورب متسائل يقول: هل تأتي هذه التحركات السعودية في المنطقة منفصلة عن مجمل ما قام به محمد بن سلمان من حملة إصلاحات وتغيرات بنيوية غير مسبوقة اقتصاديًا واجتماعيًا، داخل المملكة؟ والجواب يبين أنه لايمكن الفصل القسري أبدًا بين الإصلاحات الداخلية في السعودية، وبين التحركات في السياسة الخارجية، بل تجاريها وتتساوق معها وتدعمها اقتصاديًا، واجتماعيًا واعتباريًا لقادة يريدون الوصول إلى عقول وعواطف الناس عبر حزمة متلاصقة من النهج السياسي والاقتصادي المنفتح على الجيران الأكثر قربًا ضمن عالم إسلامي يعيد إنتاج نفسه وسط صراعات دولية وإقليمية تتهددها الكثير من الأخطار ليس آخرها الخطر الإيراني المحدق بالمنطقة بقضها وقضيضها.
الزيارة المرتقبة ستكون بمثابة إنهاء كلي وتجاوز مباشر وغير مباشر لمنتجات حصلت من جراء مقتل الخاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018، وهذا الإنهاء والتجاوز تحتاجه كلا الدولتين، وهم يدركون مدى أهمية الانتهاء كلية منه، وطي هذه الصفحة الصعبة من تعكير العلاقات التي انعكست حينذاك على كثير من الملفات التي كان يمكن أن تعود بالفائدة الاقتصادية والتعاونية بينهما، وهو ما يجري العمل عليه اليوم أي بعد أربع سنوات من التعثر والعثار الكبير بينهما.
كذلك فإن من مصلحة السعودية وتركيا مراكمة عمل تصالحي طالما وافق تطلعاتهما للمنطقة والجوار الإقليمي بعيدًا عن التمترس وراء محددات قد تترك آثارًا سلبية كبرى على أوضاع البلد في السعودية أو في تركيا، حيث لاحظنا مؤخرًا أن المملكة قد بدأت بتبني النهج التصالحي حتى مع (إيران) التي تعتبرها السعودية عدوًا أكيدًا لها، ولكل دول المنطقة، وهي التي تحمل مشروعًا فارسيًا بأطماع واضحة للجوار العربي، عبر انخراط السعودية في مباحثات مباشرة مع إيران، أي مع هذا الخصم الإقليمي الخطير.
علاوة على الحالة الستاتيكية اللافتة في مسارات الحل والانتقال السياسي للقضية السورية حيث تعتبر كلًا من تركيا والسعودية دولتين مهمتين وفاعلتين في المسألة السورية، ولا يغيب عن البال أن أحد عوامل تعطل هيئة المفاوضات السورية عن الفعل والحركة، كان الخلاف السعودي التركي، بما يخص إعادة تشكيل الهيئة عبر إدخال وتغيير المستقلين حيث توقفت الهيئة عن العمل جراء ذلك وسواه من الخلافات الاقليمية التي انعكست بشكل قوي على مجريات الحركة والإنجاز داخل الهيئة، قبل أن يكون خارجها. ومن ثم فإن هذه الزيارة قد تنتج ماهو جديد وجدي لإعادة تفعيل هيئة التفاوض المتوقفة.
وتجدر الإشارة إلى أن ضرورات المملكة نحو إعادة العلاقة مع تركيا باتت أكثر أهمية في الآونة الأخيرة بعد طرح "رؤية 2030" التي أطلقها الأمير السعودي محمد بن سلمان شخصيًا، وهو يحاول إعادة تشكيل اقتصاد بلاده المنجدل مع النفط والمرتهن له، باتجاه فتح آفاق أخرى للتنمية والتحرك الاقتصادي الاستثماري. حيث تشمل خطته أيضًا جذب نحو 30 مليون سائح أجنبي سنويًا مع قدوم عام 2030 منها السياحة الدينية المهمة للمسلمين كافة وتركيا من الدول الاسلامية الكبرى.
من هنا تأتي الزيارة المرتقبة لتعيد إنجاز كثير من الفوائد عبر طرح كل هذه الملفات التي ستترك آثارها الإيجابية على الواقعين الاقتصاديين لكلا البلدين، في الأشهر القادمة وكذلك في السنوات المقبلة، وهو ماتحتاجه تركيا والمملكة كذلك، وليس ذلك من المستحيلات، بل يمكن إنجازه فيما لو توفرت الإرادات للدول، ويبدو أن هذه الإرادات أضحت متوفرة اليوم لدى الطرفين ومن ثم يمكنها إحداث كثير من التغيرات، وإنجاز عملية إعادة البناء من جديد، لتكون (بيريسترويكا) جديدة تركية سعودية تستند إلى الماضي المشترك بين العرب والمسلمين، والمستقبل المشترك أيضًا، وهو ما بات مدركًا ومستوعبًا لدى الجميع عبر وعي مطابق.
المصدر: تلفزيون سوريا